حكيم مرزوقي
كأني بالدراما التلفزيونية قد تحوّلت إلى ما يشبه بعض أنواع الحلويات أو المعجنات أو المرطبات التي لا نصادفها إلّا في شهر الصيام. تغيب هذه البضاعة الموسمية طيلة العام، فلا يتذكّرها ولا يشتاقها أحد -بل ويكاد لا يحتاجها ولا يعمل فيها- ثم تهجم مرة واحدة فتحتلّ الشاشات وتشتّت الأذهان، وتصبح شغل من لا شغل له.
هل نكون قد استصغرنا من شأن ممثل أو كاتب أو مخرج أو عامل فني، إن قلنا بأنه مثل جارنا العم فلان.. يمتهن بائع الزلابية في رمضان؟ تبدو هذه المقاربة مشروعة ولا جُناح عليها، وليس فيها أيّ لهجة استهزاء أو تحقير إذا ما علمنا أن الصناعة الدرامية باتت -وبالفعل- مهنة موسمية لها جمهورها الذي سوف ينفضّ عنها فور التماسنا هلال شوال.
من أين يأتي التحقير والاستهزاء ودراميو التلفزيون الرمضاني، يحظون بالمال والشهرة والتبجيل في الدوائر الرسمية ومؤسّسات الدولة، وحتى لدى شرطة المرور؟ وفوق ذلك كله، يتابعهم جمع غفير من النقاد المرتخين أمام شاشات المواقع الاجتماعية وفي مكاتب الجرائد اليومية والبلاتوهات التلفزيونية.
السؤال الذي يُطرح هنا، وبعيدا عن المفاضلات والتقييمات بين هذا العمل وذاك، هو كيف نجعل هذا الإنتاج الدرامي مستداما، ونخرجه من الموسمية المقيتة ليتكرّس كصناعة ثابتة متينة ومستمرة، فليس بالضرورة أن يحتكر شهر الصيام بعض الأطعمة وفق مقولة “زوروني في السنة مرة”.
وبما أننا بدأنا هذه المقاربة بالأطعمة الموسمية مقابل الإنتاجات الدرامية، فهل أن من يصنع كعكا طيبا ولذيذا في رمضان، لا يستطيع أن يأتي بمثله في شوال؟ وهل أن من استطاب هذا الكعك في موسم الصيام، سوف يعرض عنه في باقي شهور الإفطار؟ إن من يدّعي أنه يقدّم فنا “مباركا” في هذا الشهر فهو قادر على الإتيان بمثله في بقية العام.
إن كانت الذريعة في غياب الإمكانيات وورشات الإنتاج على مدار العام فهذا غير صحيح، بدليل أن لدينا جيوشا من العاطلين عن العمل في الأعمال الدرامية، ولا تحظى بعمل إلّا فئة قليلة منهم. أما عن الأموال فهي لا تنضب، وتريد الاستثمار وأن تضخّ في هذه القنوات التلفزيونية المتناسلة بمسلسلات لها من يتابعها من كل الفئات العمرية، مقابل الإنقاص من برامج “التوك شو” التي تسعى غالبيتها إلى الإثارة الرخيصة وقد علّل منتجوها ذلك بالتكاليف الأقل، مقارنة بالأعمال الدرامية. الأمر الآخر الذي يعزّز مكانة الدراما التلفزيونية ويقوّي من حظوظها في افتكاك مستقبل واعد، هو كونها قد ارتقت -حقيقة- بخطابها الغني والإبداعي في السنوات الأخيرة رغم بعض الهنات والسقطات التي لا بد منها، تمليها سياسات وصائية أكثر منها رقابية أي محاولات تعبئتها وتسخيرها ضمن نوع من البروبغندا الدعائية لهذا النظام أو ذاك وسط التناقضات العربية.
سبب هذا التفاؤل المبشّر بتقدّم كبير، يعود إلى رفد هذه الدراما بطاقات شابة، طموحة ومطلعة على أحدث المدارس في فنون التمثيل والإخراج والتصوير، بالإضافة إلى الحالة التنافسية التي أتاحتها تعدّدية القنوات التلفزيونية في سوق فضائية لم تعد تخضع للاحتكار، بالإضافة إلى ظهور تقنيات البث عبر الإنترنت، وما تمثله من ثورة إنتاجية شملت العالم العربي.
لقد آن الأوان لترك ونسيان هذا الاستعلاء الثقافي غير المبرّر إزاء الدراما التلفزيونية من قبل نخب ثقافية ما زالت تزدري الإنتاج الدرامي على الشاشة الصغيرة وعلى خشبات المسرح، بذريعة أن جهاز التلفزيون ومشتقاته الحديثة من أدوات بثّ إلكتروني، لا يرتقيان إلى سحر وألق الفن الرابع والفن السابع.
الحقيقة أن هؤلاء ما زالوا يعيشون في جلباب مثقفي الثمانينات والتسعينات، من أولئك الذين لم يتفاعلوا مع رياح الثورة الرقمية، وتمترسوا خلف النوستالجيا المدافعة عن حضارة الكتب الورقية والأفلام السينمائية التي تدور بكراتها في القاعات المظلمة.
“إذا تكلم الاقتصاد فاصغوا إليه، فإن صدق القول ما قاله الاقتصاد” مقولة تنطبق على كل الأشياء بما فيها حقل الفن والإبداع، لذلك فإن مسألة المناداة بإنتاج درامي تحتضنه الدولة وترعاه عبر الأموال العامة وذريعة الحفاظ على المستوى الراقي وتهذيب الذوق العام، تشبه من يحرث بثور وسكة حديدية، منتظرا إنتاجا وفيرا ونوعيا.
مناقشة السوية الفنية للدراما التلفزيونية موضوع ثانوي ولاحق، وذلك استنادا إلى مبدأ الكم يفرز الكيف، والوفرة تعلّم الإتقان ثم إن الزمن كفيل بالغربلة وتبيان الصالح من الطالح.
هذا منطق السوق، بكل ما فيه من نفائس ونقائص كالقيم الربحية والأحكام التنافسية، والاحتكارات والمضاربات وقوانين العرض والطلب وما ينتج عنها من تعويم أو كساد، وانخفاض وارتفاع في الأسهم والبضائع. هذا المنطق ينطبق تماما، على النشاط الدرامي دون زيادة أو نقصان بل لعلها الصناعة الرابحة المنظمة والناجحة الوحيدة في العالم العربي، ويمكن من خلالها أن نتحدّث عن طموحات واعدة تتعلّق بالتكامل والتنافس ومناطق التبادل الحر والسعي إلى دخول واكتساح أسواق جديدة بجودة عالية مع نسبة أرباح تزيد عن أسعار التكلفة.
هذا الحديث المتعمّد عن الدراما التلفزيونية بلغة اقتصادية صرفة، لا يستهتر بالقيم الجمالية والفنية والفكرية للدراما التلفزيونية، إنما يعلي من شأنها، ويُراهن عليها في تحريك سوق العمالة وتحريك الدورة الاقتصادية في حالة عدم استسلامها للمزاجيات الموسمية والإنتاجات العشوائية والاختيارات غير المدروسة للمواضيع المطروقة في هذه الدراما التلفزيونية التي تمثل في حد ذاتها “دراما حياتية” توازي المنتج الإبداعي، تناظره وتتفوّق عليه أحيانا.
العرب اللندنية