د. وليد سيف
رسالة هرهورة بالمغرب: ربما عرف الإنسان متعة البحر منذ بدء الخليقة، لكنه لم يعرف متعة السينما إلا منذ أقل من قرن وربع القرن، وإذا كانت أجواء البحر هي أجواء المرح والانطلاق والسباحة، فهل يمكن أن تجتمع هذه الأمور مع مشاهدة السينما؟ هذا الفن الذي يتطلب قدرًا من التركيز ومتابعة الصورة التي تستلزم قاعات ملائمة للعرض والإنصات لصوت نقي، الذي بالتأكيد يضيع بعض منه في أجواء وصخب البحر والشواطئ، وبعد كل هذا هل يمكن أن تجتمع السينما مع البحر؟
ربما لا يعرف الكثيرون أن أعرق مهرجان سينمائي في العالم العربي كان مهرجان قليبية التونسي الذي ما زال ينعقد على شاطئ تلك المدينة الجنوبية الجميلة، وقد انعقدت أولى دوراته في عام 1964، ولقد شرفت بالحصول على جائزة لجنة التحكيم الخاصة به عن فيلمي دون تعليق نهاية الثمانينيات.
اليوم أنا في مدينة الهرهورة المغربية عضوًا في لجنة تحكيم مهرجان سيني بلاج في دورته الخامسة الذي انعقد في الفترة من 26 وحتى 31 أغسطس، والذي يُعد واحدًا من أحدث المهرجانات السينمائية التي تقام على البحر، والذي شارك في تأسيسه ويتولى رئاسته المخرج المغربي الشاب جاد لمجاهد ومعه مجموعة من السينمائيين وهواة السينما ونقادها وكتابها.
على الرغم من أن المهرجان مخصص لأفلام السينما المغربية فإنّه شكل لمسابقة الأفلام لجنة تحكيم دولية ضمت إلى جانب كاتب هذه السطور المخرج الأنجولى دوم بيدرو والتونسية إيمان بن حسين ومن المغرب كمال كمال والممثلة ماجدولينا، وترأّس اللجنة الروائي والباحث حسن أوريد.
تسابق على جوائز المسابقة سبعة أفلام هي: أنطو annato لفاطيما بوباكادي وسلم وسعى sahari لمولاي طيب بوح و Dernier round، والنزال الأخير أو الجولة الأخيرة لمحمد فكران، والطايع لرشيد الوالي ومفقود أو جرادة مالحة لإدريس الروخ، وأسماك حمراء لعبد السلام كلاعي، وجبل موسى لإدريس المريني، وكلها من الأفلام الحديثة معظمها شارك في مسابقات وطنية ودولية ونال الجوائز.
هكذا فإن المهرجان يُعد إعادة تقييم وتنافس بين أفلام مغربية قوية ومتحققة بإشادات نقدية وجوائز في مختلف الفروع، لكن كل هذه الأمور لم تشغل أعضاء اللجنة، كانت النقاشات بين الأعضاء في الغرفة المغلقة تجري على قدم وساق بعد كل عرض وتستمر لساعات، وصممت اللجنة على أن تعقد العروض الخاصة بها في قاعة مغلقة ومناسبة حتى تشاهد الأفلام في أفضل صورة وبأنقى صوت لتتمكن من تقييمها بشكل سليم، وإن كانت عروض الجماهير والندوات تجري على البحر، وفي الهواء الطلق.
ربما لا تتيح فرص العرض الجماهيرى في ظل هذه الظروف الدرجة المناسبة من نقاء الصورة ووضوح الصوت بالدرجة الدقيقة، لكنها لم تمنع جمهور المشاهدين من الاستمتاع بالأفلام والنقاشات التي شهدت سخونة وحوارًا جريئًا من شباب متعطش للفن، وغيور على صناعة السينما في بلاده مع فنانين لديهم طموحاتهم وأحلامهم ورؤاهم التي قد لا تتحقق بالدرجة التي ترضيهم، فمهما حققت سينما المغرب من إنجازات يظل الطموح دائمًا للأفضل.
في الحفل الختامي أعلن رئيس اللجنة عن الجوائز التي جاء على رأسها فيلم جرادة مالحة للمخرج إدريس الروخ حيث عبر العمل بأسلوب تشويقي عن معاناة امرأة من أجل البحث عن هويتها الحقيقية في ظل عالم تتنازعه قوى غير مرئية من أجل طمس هذه الهوية، وقد تكاملت في هذا الفيلم مختلف العناصر الفنية تحت إدارة مخرج واعٍ ومتمكن، وإن كان هذا فيلمه الروائي الطويل الأول، لكنَّ خبراته متعددة في مختلف مجالات الفن السينمائي.
حصل على جائزة الإخراج محمد فكران عن فيلم الجولة الأخيرة، وهو يدور حول الهجرة غير الشرعية بين الحلم والواقع، وقد تميز بإدارته المتمكنة لمجموعة من الأطفال والصبية هم أبطال العمل الساعون للهجرة، حيث ظهروا كأنهم محترفون مع أنهم يقفون أمام الكاميرا لأول مرة، كما تميز فكران بتكويناته البصرية المعبرة وقدرته على المزج بين الواقع والخيال بأسلوب فني معبر.
ذهبت جائزة السيناريو إلى فاطمة بوباكدي وهي المؤلفة والمخرجة لفيلم أناطو الذي يعد إحدى المحاولات السينمائية المغربية الجادة في التعبير عن الاغتراب والغربة بين أبناء القارة الأفريقية مع أنهم يعيشون على أرض واحدة، وتربطهم العديد من الوشائج.
ذهبت جائزة أفضل ممثل إلى محمد بوشيت وهو أحد أبطال فيلم الصحراء الذي يحكي عن تشتت ثلاثة إخوة بعد استقلال البلاد وسعيهم الدؤوب من أجل لم الشمل. وعلى الرغم من تعدد أبطال وشخصيات الفيلم فإنّ بوشيت استطاع أن يلفت الأنظار بحضوره القوي وأدائه المتمكن حركيًّا وصوتيًّا ومعبرًا عن الشخصية بأكثر الأساليب بساطةً وقربًا من الصدق والإقناع.
آخر الجوائز كانت من نصيب الفنانة جليلة التلمسي كأفضل ممثلة عن دورها في فيلم أسماك حمراء، حيث تحملت عبء البطولة المطلقة في هذا العمل الذي يحكي عن امرأة تخرج من السجن لتواجه سجنًا أكبر من المجتمع بل المتمثل بشكل خاص في أقرب الأقرباء: الشقيق والابن.
اعتمد المخرج على توظيف قدرات جليلة التلمسي التعبيرية ليستغني كثيرًا عن الحوار، كما تمكنت هي كممثلة قديرة من أن تنحي جانبًا أي تعبيرات مباشرة أو تقليدية ميلودرامية على الرغم من طبيعة الموضوع والشخصية، لتقدم في النهاية صورة حقيقية وصادقة لمعاناة امرأة مظلومة في مجتمع ذكوري.
هكذا لم تمنع أجواء البحر والاستمتاع به الحضور من مشاهدة أفلام راقية المستوى وجديرة بالمشاهدة، وحضور مناقشات جادة وحماسية، والتعرف على تقييم موضوعي للجنة التزمت الحياد، وسعت لأن تكون نتائجها معبرة عن مستوى الأفلام التي شاهدها الجمهور.
يعد مهرجان هرهورة من المهرجانات السينمائية الشابة بالمملكة المغربية من بين نحو ستين مهرجانًا تُعقد سنويًّا، وقد استطاع أن يجمع بين جدية الفعاليات التي تمثلت في ورش للسيناريو والتمثيل وماستر كلاس ومائدة مستديرة وعروض ونقاشات لكتب سينمائية، إلى جانب –طبعًا- عروض سينمائية أعقبتها ندوات على الشاطئ، وبما وفره للحضور من أجواء احتفالية وشبابية على أحد أجمل شواطئ المملكة المغربية.