سلطان القثامي
يتناول فيلم «ناقة» من إخراج مشعل الجاسر، الحالة ونقيضها في وصفه لعلاقة الإنسان بالطبيعة والحيوان. ومن منظور سينمائي، يمكن تصنيف هذا العمل في حقل ما يسمى بسينما البيئة، وهي توجه لدى فئة من صناع الأفلام نحو تجسيد العلاقة الجدلية بين الإنسان والبيئة المحيطة به، بما فيها من طبيعة وكائنات حية. يندرج تحت هذه الفئة من الأفلام أعمال تسهب في فهم دوافع تمرد الإنسان على الطبيعة أو دفاعه عنها، ظهرت بكثرة في القرن الواحد والعشرين.
ذُكِرَ مصطلح سينما البيئة قبل عقدين من الزمن في كتابات سكوت ماكدونالد، ثم ديفيد إنجرام كوصف للأفلام التي تحمل رسالةً أو موضوعًا بيئيًا معينًا. تطور المفهوم مع الوقت وتعددت دلالاته، حتى أصبح استخدامه أكثر تعقيدًا في سياقات متعددة. فتحول الفهم التقليدي إلى نوع من النقد البيئي الذي يتجاوز التصوير البسيط لعناصر الطبيعة في العمل الفني. تقول أستاذة الإعلام والفن، باولا ويلوكيه ماريكوندي، إن الأفلام البيئية لا تبدو في ظاهرها بيئية، لكنها مع ذلك تقدم لنا وجهات نظر حول علاقة الإنسان بغير الإنسان. وشمل هذا النموذج توجهات عدة منها، على سبيل المثال، التغير المناخي والاستعمار، ويأخذ في الاعتبار التوتر الناتج عن هذه العلاقة وأثره على الطرفين. فتستحضر سينما البيئة الظروف التي تنظم أو ربما تزعزع العلاقات الإنسانية بالكائنات غير الإنسانية، محاولةً إضفاء معاني نقدية كامنة، خصوصًا في الأفلام التي قد لا تبدو بيئية بشكل واضح، لكنها تُظهِر، بوعي أو بغير وعي من صانع الفيلم، معنىً أيديولوجيًا يعكس كيفية ارتباط البشر بالبيئة والكائنات التي تعيش فيها.
يقف فيلم «ناقة» بين طرفين متناقضين. فهو يصور الحالة التي تستقبل فيها الصحراء أفراح البشر ومآسيهم على حد سواء. وكذلك نفس الحالة التي يكون فيها الحيوان صديق الإنسان وعدوه. هذه الفكرة أشبه ما تكون بالرومانسية الداكنة في القرن التاسع عشر في أميركا التي صور فيها الأدباء، وبالتحديد كتاب الأدب، كيف تكون الطبيعة الغابات الكثيفة والبحار مصدر انبهار لزوارها وخوفهم أيضًا. لكن غالبًا ما تنبع هذه الفكرة من نظرة واقعية للحياة والاحتمالات الكامنة في الطبيعة بشكل عام، وليس بالضرورة أن يكون الإنسان سببًا للخطر أو التهديد المباشر للبيئة على حياته.
يذهب البشر للصحراء في «ناقة» للترفيه عن أنفسهم، فهي متنفس لكثير من سكان مدينة الرياض، فهي الطبيعة الخام التي يجد فيها الإنسان راحته، بعيدًا عن ضوضاء وضجيج المدينة. بل هي المكان الذي يحتفل فيه الناس ويكتمون أسرارهم بعيدًا عن بقية المجتمع. فتذهب الشخصية الرئيسة «سارة» في موعدها الغرامي مع «سعد» ويقيم «شاعر نجد» احتفالًا بفوزه هناك. وفي الصحراء أيضًا أساليب الترفيه المتعددة مثل الغناء والرقص وركوب الدبابات. بشكل عام، يذهب البشر هناك ليكونوا سعداء. فجميع الشخصيات في الفيلم ذهبوا للصحراء بكامل إرادتهم، فهو المكان المناسب وربما الوحيد لممارسة حرياتهم الفردية. لكن تصبح الصحراء بعد ذلك رمزية للهلاك والضياع. فغالبية من ذهبوا للصحراء واجهوا مصيرًا قاسيًا يعطي انطباعًا للمشاهد أن المكان الذي قصده الناس للتعبير عن جمال حياتهم هو في الواقع مصدر للشر والخسارة.
أقدّر النظرة الموضوعية تجاه العوامل المسببة للمصائب، فالنظرة الحالمة والمتشائمة جدًا لا تخبئ الكثير من الحقيقة في إطارها السردي. قد يكون الفيلم حافظًا على توازن لا بأس به في تعامله مع الصحراء، لكنه لم يحافظ على صوابية هذه النظرة في تجسيده لدور الناقة في الفيلم.
النظر للجمل كمصدر شر دائم هي نظرة استشراقية عابرة وفكرة استعمارية لا أظنها مقصودة في سياق هذا الفيلم. في الواقع أن الصحراء هي موطن الناقة وعلى الإنسان ألا يجزع وأن يتعايش مع هذا الواقع إذا علمنا أن الإنسان الحديث ما زال يشوّه البيئة بمعدّاته ويغير معالمها.
كنت أتمنى لو تعمّق مؤلف الفيلم في كشفه لتوجهات الشخصيات ووعيهم البيئي. غالبًا ما يحدث هذا الأمر عبر الحوار بين الشخصيات أو المنظور الفردي للشخصيات الرئيسة. فسينما البيئة تُعنى بالتحديات الفكرية التي تختلج العقل البشري في مواقفه اليومية مع من حوله. في مناسبات كثيرة كان هناك فرصة لعكس هذا الوعي الفردي والجمعي حول علاقة الإنسان ببيئته، لكنها لحظات تمعن ولا تدوم طويلًا ولا تعطي انطباعًا عن آراء الشخصيات تجاه الصحراء بالتحديد. على سبيل المثال، موقف «سارة» من المادة المخدرة التي عثرت عليها في الرمال، لكن رمتها للناقة التي بدورها تناولتها ولقت حتفها مباشرة بعد ذلك.
هذا المشهد رمزية لتعدي الإنسان على بيئته، فجميع ما يتركه الإنسان في الأرض يؤثر بشكل مباشر على صحة البيئة والحيوانات التي تقطنها، فيصبح الإنسان أسير رغباته وتصبح البيئة مصدر استغلال دائم. في الواقع أن علاقة الإنسان بأرضه في المجتمعات الحديثة هي علاقة أكثر نفعية وأقل توازنًا من الماضي. كثير من المجتمعات القديمة تفيد البيئة والحيوان وتستفيد منها، فهي علاقة متوازنة إلى حد كبير. لكن الإنسان الحديث يربي عادات الطمع والجشع في تعامله مع مصادر الطبيعة المختلفة. في الصحراء، قد يترك البشر مخلفات الأكل والنار وقد يُهجِّرون الحيوانات تلبيةً لرغباتهم الشخصية، لكنهم يفعلون القليل في المقابل للتكفير عن سلوكياتهم البيئية الخاطئة.