سوليوود «متابعات»
«حياة الآخرين» كان هو الفيلم الأول لمخرجه فلوريان هنكل فون دونرسمارك. وهو لم يصنع بعده إلا فيلمين هما «السائحة» و«لا تنظر بعيداً مطلقاً (Never Look Away). في الأول (2010) مال إلى فيلم أكشن رومانسي على الطريقة الأميركية، وفي الثاني (2018) عاد إلى النطاق الألماني كقصّة ووقائع. لكن أي منهما لم يُستقبل جيداً كحال فيلمه الأول ذاك، وفقا لما نشرت صحيفة الشرق الأوسط.
المكان ألمانيا الشرقية في مطلع الثمانينات عندما كانت ألمانيا ما زالت منقسمة بين نظامين تدير شؤونه في الجانب الشرقي السُلطة الشيوعية وتدير شؤونه في الجانب الغربي تلك الغربية. في برلين الشرقية تعيين المخبر الملتزم وايزلر (أولريخ موه) للتجسس، صوتاً وصورة، على الكاتب المسرحي دريمان (سابستيان كوش) الذي يعيش مع صديقته الممثلة كريستا (مارتينا جَديك) التي يريدها الوزير هَمف (توماس تييم) لنفسه.
الطريقة الوحيدة للتنصت على الكاتب واتصالاته وميوله وأفكاره هي استئجار الشقة التي تعلو شقته واستخدامها للسماع والمشاهدة. وحين ينشر الكاتب مقالة نقدية في الغرب يضيق الخناق عليه، لكن وايزلر يدبّر وسيلة ينقذ فيها حياته بعدما تأثر، سياسياً، بوضع الكاتب وأفكاره.
أمضى المخرج أربع سنوات يحقّق ويدوّن ويقرأ قبل أن يلخص إلى سيناريو متين مبني على ما فرزته الوقائع ولو أن الحكاية هي خيالية. يتيح السيناريو لطرح التساؤلات المعنية بالموقف الفردي للحالة الماثلة. ومن بينها دور المثقّف والفنان في مواجهة صاحب القرار السياسي ودور العين – الأداة في التجسس على الأول لخدمة الثاني،
ثم ما يحدث إذا ما وقعت الأداة في موقف يفرض عليها، وقد تشبّعت بالثقافة والفن بدورها، مساعدة المبدع على تجنّب غضب ومؤامرات السلطة الشيوعية. هذا كلّه أدّى إلى فيلم حبكته سياسية وعاطفية في الوقت ذاته. عمل متين الصنعة، تتوالى أحداثه من دون هفوة تُذكر ومن دون ضعف أو تحوّل عن ناصيته. دراما مشدودة تكشف موقع الشخصيات من بعضها بعضاً والحقبة الحزينة في تاريخ ألمانيا من دون – وهذا هو المهم – أن تنتهج الطريق السهل لإدانة جاهزة. بتجنّب إدانة جاهزة (الإدانة موجودة عليك أن تتعب قليلاً للوصول إليها).
نجاح «حياة الآخرين»، الذي نال أوسكار أفضل فيلم أجنبي في العام التالي لإنتاجه، لم يكن بسبب موضوعه وما يُثيره عن حياة مبدعين ومثقّفين يحاولون التنفس في الهامش الضيق من الحياة ليكتشفوا أن هذه المساحة أصغر من أن تلبي حاجاتهم، بل، وفي الأساس، لأن الفيلم عمل رائع يخلو من همجية الكاميرا المحمولة وفوضى الحماس لموضوع من السهل الوقوف فيه لجانب أبطاله الأبرياء من كل ذنب سوى ذنب التفكير.
هناك متعة خاصّة في أفلام حول التجسس والبصبصة، ولو أنها هنا مرتبطة هنا باستعراض مرحلة سياسية سابقة.
فون دونرسمارك يمنح الفيلم الثقل الفني المناسب للثقل الدرامي الذي يحتويه. يُعامله كما كانت السينما الأوروبية تُعامل مواضيعها الصعبة بكثير من ضخ العناصر الفنية والتقنية من دون هفوات. فيلم فيه نُتَفٌ من «كادرات» برغمان وكثير من إيحاءات سينمات أوروبية شرقية وغربية رصينة وأساليب عمل الألماني (الشرقي) كونراد وولف والسويدي يورن دونر، وحتى القدرة على معالجة موضوع شائك من دون التضحية بالتشويق الدفين في طيّات الاهتمام بشخصياته وما سيؤول إليه أمرها، كما في أفضل أفلام الفرنسي كلود شابرول.
قرب نهاية الفيلم، وبعد توحيد ألمانيا، هناك المشهد الذي يلتقي الوزير السابق هَمف بالكاتب دريمان فيقول له في مزيج من الأسى والتحدّي معاً: «بات من الممكن الآن كتابة أي شيء عن ألمانيا الجديدة. لا شيء للإيمان به. ولا شيء للتمرّد عليه».