د. وليد سيف
هل يُمكن أن يخذل كريستوفر نولان جماهيره بعد كل ما حقَّقَه من نجاحات، وبعد أن أصبح أحد أهم مخرجي السينما في العالم وصاحب أسلوب سينمائي بليغ ومتقدم ومتفرد.. هل يمكن أن يفشل فيلمه أوبنهايمر عن أبي القنبلة النووية الذي سبقته دعاية ضخمة وارتقب العالم ظهوره ثم شهدت عروضه الأولى إقبالًا جماهيريًّا ضخمًا وحققت إيرادات مهولة.
تعالت بعض الأصوات التى وصفت الفيلم بأنه ممل وبأنه أحدث لهم صدمة لأنه لم يقدم سيرة حياة مشبعة ودقيقة لأوبنهايمر، ولم يصور لهم ما توقعوه من انفجارات وأحداث كارثية.
فى المقابل ردَّت أصوات أخرى بأن الفيلم في غاية الإمتاع وأنه ذروة الإبداع لدى نولان وأكثر أفلامه نُضجًا وتوظيفًا للغته السينمائية شديدة الخصوصية وأسلوبيته المميزة في السرد.
في الحقيقة أن نولان لم يقدم سيرة ذاتية لحياة أوبنهايمر، لكنه بأسلوب فني اختار لحظات ومواقف مهمة من حياته.. لحظات حية ومؤثرة ليست على شريط السينما فقط لكن على حياة العالم اليوم، الذي تنتابه مخاوف اندلاع حرب نووية يتصاعد التهديد بها بين وحين وآخر.
يمارس أوبنهايمر في هذا الفيلم لعبته المعتادة في التلاعب بالزمن، يبني جسرًا متعدد الطبقات من الأزمنة يتداخل فيه الحاضر بالماضي بالمستقبل، بل تتداخل فيه الصورة بين الأبيض والأسود والملون، هكذا يبدو جهد المونتاج في الفيلم مضاعَفًا حتى عن المعتاد في أفلام نولان، فالربط هنا ليس بين أزمنة متباعدة فقط وإنما أيضًا بين مواد مصورة بطرق مختلفة، لكن التلاعب بالزمن يبدو هنا كأنّه حتمي.
فعلى الرغم من أن مدة العرض ثلاث ساعات فإنَّ التعرُّض لكل التفاصيل التي قدمها نولان وطرح من خلالها رؤيته كان يمكن أن تمتد لأضعاف هذه الساعات، فقد أثار من خلال فيلمه عديدًا من القضايا التي تتعلق بالتاريخ والسياسة والحرية الفرد ومفهوم الوطنية والإنسانية.
ربما رغم كل نجاحاته السابقة لم يتحقق من قبل بصورة متكاملة هذا الانسجام لديه بين الفكر والأسلوب، بين عظمة الأفكار وتعددها وبين الأسلوب السردي المعقَّد الذي يبدو كأنه صنع خصيصًا من أجلها.. إنّه التعبير بأسلوب متشظٍّ عن واقع مُتشظٍّ.. بين ما هو خاص بأوبنهايمر وشخصيته وهمومه ومأساته، وبين الإنسان الخطّاء الذي يرتكب جرائمه ثم يعود ليندم على ما اقترفه. من بين جمل الحوار الكثيرة الدالة على ذلك، ما جاء على لسان زوجته: «ليس بإمكانك أن ترتكب الخطيئة ثم تطلب الشفقة من بعدها» قد تستوقفك هذه الجملة فتتساءل عما إذا كانت موجهة لأوبنهايمر أم لك أنت أم للإنسان في كل مكان.
لكن قسوة الزوجة يقابلها حنو شديد من نولان الذي يتوقف أمام لحظات الألم والندم والمحاكمات التى عاشها بطله، إثر إصراره الشديد على أن يتوقف عن مواصلة العمل على مزيدٍ من أسلحة الدمار، بعد كل ما حقَّقَه من مجدٍ، وما جرّه عليه ذلك من أزمات كأنه يتجرّع بالفعل مرارة ما اقترفه مع أنه شخص شديد الضعف والهشاشة.
هذا العالِم الكبير الشهير صاحب الاختراع الذي كاد يحسم الصراع في الحرب العالمية نراه يجلس مهزوزًا ومرتبكًا كصبيٍ خائف أمام الرئيس ترومان يكاد توسل إليه أن يعفيه من مواصلة العمل على صنع الأسلحة الفتاكة، بينما يرد الرئيس في صلف بأن اليابانيين لن يهتموا بصانع القنبلة وإنما يهتمون به هو صاحب الأمر بإسقاطها.
يوظف نولان في غالبية مشاهد الفيلم اللقطات القريبة والمتوسطة وهو لا يستخدم كثيرًا اللقطات العامة الشائع استخدامها في هذا النوع من الأفلام ذات الطابع التاريخي، لكنه كونه مخرجًا لا ينشغل كثيرًا بما تفرضه ثقافة النوع بقدر حرصه على رؤيته وأسلوبه، فهذه اللقطات المتوسطة هي الأقرب للحميمية مع المشاهِد، كما أن اللقطات القريبة هي الأكثر قدرة على التغلغل داخل المشاعر في فيلم يهتم كثيرًا بالإنسان بكل ما تعنيه الكلمة والصفة.
إنها ترصد في هذا الفيلم بوجه خاص قدرات الممثل ميرفي المتميزة في التعبير بالعينين بدقة عن حالات أوبنهايمر المختلفة من الحيرة إلى القلق إلى الثقة إلى التوتر إلى الخوف، كل هذا دون أن يفقِد -كمُمثل متمكّنٍ- الحفاظَ على الشخصية بخطوطها العريضة، وهذا التعبير الدقيق من ميرفي يرتبط أيضًا بتفاهمه وتعاونه الكامل والمستمر مع نولان، فيدرك حجم التعبير المطلوب وبالنسبة المحددة بالتطور اللازم في اللقطة الواحدة وعلى طول المشهد.
لا يكتفي نولان بتمكّنه البصري بل إنه يترك لنا عادة شريطًا صوتيًّا لا يُنسى، سواء من خلال الحوار المبتكر النابع من قلب الشخصيات أو المؤثرات الصوتية التي تكاد تمتزج مع الموسيقى في بناء مركب ينسجم مع الصورة يدعمها ويؤكدها ويتحاور معها.
وهو ما وصل إلى أقصى درجاته في مشهد تفجير القنبلة الذي لن يُمحى من ذاكرة السينما، فأصوات الموسيقى والمؤثرات ترتفع تدريجيًّا حتى تصل إلى الذروة ثم تتوقف تمامًا في لحظة التفجير على عكس المتوقع والمعتاد، ثم لا نسمع سوى أصوات أنفاس المراقبين وقد هالهم الانفجار وما أثاره من أضواء مرعبة تكاد تخطف الأبصار.
بقيادة نولان يتعاون الثنائي جورانسون واضع الموسيقى مع مصمم الصوت راندي توريس، ليحقّقا هذا التأثير العظيم بالتلاعُب بين الصمت والصوت بمختلف مفرداته ودرجاته وباستخدام الآلات الموسيقية كل في موضعها وطبقًا للتأثير المطلوب.
يوظف نولان أساليبه السينمائية الساخرة برصانة وهو يرصد المتابعين المتشوقين لمشاهدة الانفجار في داخل الفيلم انتظارًا للحدث الذي سيحسم مسار القوى في العالم أيًّا كان الضحايا، لكن عبر هذه اللقطات وما تماثلها من مشاعر الجماهير في صالة العرض، ربما يجعلك تتساءل هل الفيلم يسخر منك أنت، وأنت تبحث عن متعتك في انتظار صورة انفجار على الشاشة راح على أثره في الواقع عشرات الآلاف من اليابانيين، في أكبر مجزرة بشرية عرفها التاريخ.
بلغة فنية متقدمة وبعيدًا عن المباشرة، يُقدِّم الفيلم رسالة شديدة القوة للبشر بأن يحذروا من استخدام القوة والأسلحة الفتاكة وأن يتراجعوا عن ذلك قبل ألّا ينفع الندم.
على جانب آخر وعلى الرغم من كل مزايا الفيلم فإنَّ هناك خطأً تاريخيًّا تصيَّده البعضُ في ظهور العلم الأمريكي بصورة غير صحيحة في إحدى اللقطات، لكن ما أرى أنه من الأخطاء الفادحة هو ضعف صوت الحوار بوجهٍ عام، وقد برر نولان ذلك بسبب صوت الكاميرا الإيماكس التى يعيبها الضوضاء العالية التي تصدرها، ما يجعل تسجيل المَشاهِد التي تحتوي على حوارات شبه مستحيلة، لذلك تعاون مع IMAX لتزويد هذه الكاميرات بتقنيات كاتمة للصوت ليتمكن من استخدامها، لكن النتيجة لم تكن مُرضيةً.
وصمم نولان على عدم استخدام دوبلاج لإعادة الصوت في إصراره المبالغ فيه على تحقيق الفيلم بالصورة التى يراها، كما أنه في تحدٍّ للزمن يُصمِّم على تجنب كاميرات الديجيتال وكل أساليب الكومبيوتر في معالجة الصورة.
أعمى أوبنهايمر غروره وسعيه مهما كان الثمن نحو المجد والتفوق على أقرانه، فسقط في الجريمة التي لم يغفرها هو لنفسه، فهل أعمى الغرور نفسه نولان فلم يعد يهاب انصراف الجمهور ويصمم على أن يطبق الأسلوب الذي يجعل الحوار غير مسموع، ربما أفلت نولان هذه المرة ولكن إلى متى؟