عبدالله الزيد
مرت أيام، ولا تزال حسابات ومساحات التواصل الاجتماعي المختصة بالسينما السعودية تغلي إثر أحد الصراعات القليلة في مجتمع فني جديد على المواجهات المباشرة مع جمهوره مقارنة بالدراما التلفزيونية أو المسرح! هذه المواجهة الساخنة تأتي بعد عرض فيلم «ناقة» للمخرج الشاب مشعل الجاسر، والقصة في هذه المقالة ليست عن هذا الفيلم تحديدًا، إذ سيكون لي بخصوصه عودة – فنية – بعد هدوء المشهد، إنما حديثي هنا عن القضايا الاجتماعية والفكرية الجدلية المصاحبة له.
في عام 1966م، أصدرت الأنثروبولوجية وعالم الاجتماع الإنجليزية «ماري دوجلاس» كتابها الذي حمل عنوان «الطهر والخطر» قسمت فيه المجتمعات البشرية إلى أنماط بناء على قيمهم الثقافية، وفيه كلام طويل يهمنا منه أن السيدة «دوجلاس» رأت في المجتمعات التي تقوم في تماسكها على البناء الهرمي «Hierarchical society» مثل المجتمع السعودي؛ بأنها تتعامل – غالبًا – مع المتغيرات من حولها بشكل متشابه. إذ التقاليد في هذا المجتمع محددة ولا مجال للتلاعب فيها، وكل مؤسسة لديها مكانة معروفة في السلم الاجتماعي، وكل شخص ملتزم بأدواره التقليدية ويعد الخروج عليها انحرافًا اجتماعيًا. وبالتالي، فإن الفن الذي يخرج في مثل هذا المجتمع عن معايير المجتمع يعد ملوثًا «لا يمثلنا»؛ لأنه مخل بالنظام الاجتماعي الصلب والمتماسك. وهذا ليس للفن فقط؛ بل في كل مناحي الحياة. ففي مثل هذه المجتمعات الفن يعد مؤسسة اجتماعية تمثل الضمير الجمعي الذي يتقاسمه غالب المجتمع؛ وعلى الفنان أن يعي هذا الجانب حتى لو لم يتقبله!
الإشكالية الأخرى تأتي من أن الفن بطبعه ذاتي «فردي» والفنان هو حالة وجودية مهمتها أن تولِّد «To generate» رؤية تساعد الإنسان على احتمال تراجيديا هذه الحياة. وهذا الشكل الفردي من التعبير الإنساني من الصعب جدًا تقبله في المجتمعات التدرجية، ولهذا يعاني الفنانون من حالة اغتراب اجتماعي وتوحد، ولو كنت فنانًا حقيقيًا في مثل هذه المجتمعات، فهذا – في رأيي – فرصة غير سعيدة. لا أعلم إذا لاحظتهم أنني قلت الفنان الحقيقي؛ لأن هنالك نماذج من الفن يستوعبها المجتمع التقليدي ولا يعترض عليها. وهو ذلك الفنان «الموظف» الذي يقوم بمهام عمله النسقية على أكمل وجه. وهذا الفنان بالمناسبة محبوب في المجتمعات التقليدية! وأحد هذه النماذج ذلك الذي لا يتوقف عن ترداد عبارة «الفن مجرد ترفيه وليس له رسالة»، ترديد هذه الجملة هي محاولة – واعية أو غير واعية – لنزع مهمة الفن وذاتيته من الوجود البشري، وجعله مجرد «وظيفة» تغمس صاحبها في حالة اغتراب استهلاكية الطابع. بينما الحقيقة، شئنا أم أبينا، لا يوجد فن دون رسالة مضمنة! والفنان الذي يقول إن عمله الفني بلا رسالة؛ فمعنى ذلك أن عمله بلا شخصيات واضحة ودون صراعات! أو أن هذا الفنان يصنع فنًا “وظيفيًا سريع التحضير بهدف الإنتاج والمال؛ وهذا أخطر أنواع الرسائل وأشدها على الذاتية الفنية! وله طابع أخباري، فكل ما يقوم به هو أنه يعيد تكرار ما يحدث في الشارع؛ تحت مسميات «تسليكية» مثل الواقعية أو غيرها!
لقد جاءت «ناقة مشعل» بصراعاتها وفي وقت مبكر من مسيرة تطور السينما السعودية لتقول لنا عدة أمور: أولها ضرورة أن يفهم الفنان السعودي مجتمعه المستهلك وقيمه الثقافية جيدًا. وهو أيضا كفنان جزء من هذا المجتمع، ولا أدل على ذلك من قيم «النخوة والفزعة» التي تلبست السينمائيين وأخذوا يدافعون باستماتة عن الناقة وصاحبها! ثم إننا يجب أن نفصل الخطاب الفني عن الخطاب التجاري. لا تصدقوا من يقول لكم إنه سيأتي حالة للجمهور المستهلك «ككتلة ضخمة» يفهم فيها الفن ويتقبله كحالة تعبيرية وجودية! هذا لم يحدث ولن يحدث مطلقًا منذ أيام اليونان وحتى اليوم، إلا أن يكون الفن تجاريًا، أو بعبارة أوضح أن يكون هنالك منتج استهلاكي يسوق تحت بند الفنون! وهذا تحديدًا هو الشكل الذي يقول عنه أخونا الفنان العزيز «إن الفن مجرد ترفيه».
وأخيرًا، أخي السينمائي السعودي أتمنى أن تعلمك «ناقة مشعل» التواضع والتقليل من الغرور الفني؛ فلا تصدم بردود فعل الجمهور الطبيعية! وكما يقول أبو صقر «ترا تو ما شفتوا شيء».