سوليوود «وكالات»
ليس سهلاً في العاصمة الفرنسية، حتى أيام قليلة من افتتاح الدورة الجديدة لـ “مهرجان كان السينمائي” الذي من المفترض أن تعيش في ظلّه الحياة الفنية في فرنسا كلها هذه الأيام، ليس سهلاً معرفة ما يكفي من تفاصيل حول الأفلام “الكبيرة” التي ستعرض في واحدة من أكثر دورات السنوات الأخيرة تنوعاً… وربما أيضاً إثارة للتساؤلات حول مستقبل الفن السابع، وذلك كما ورد في دار الحياة.
بعد كل شيء، من الواضح أن الفرنسيين مشغولو البال حول أمرين لا علاقة لهما بالسينما: تحركات أصحاب “السترات الصفر” والفوضى التي ينشرونها في باريس وغيرها من المدن بشكل بات مجانياً ويقترب من حدود العبث والفولكلور، من ناحية، وخسارة “كاتدرائية نوتردام” في ذلك الحريق الذي لم يبرأ الفرنسيون منه بعد من ناحية ثانية.
لهفة انتظار ما
لكنّ الفرنسيين في واد، وأهل السينما في واد آخر بالطبع. هؤلاء يترقبون بكل لهفة ما يمكن تسميته “عودة بعض كبار الكانيّين” من أولئك السينمائيين الذين صنعوا أمجاد “كان”، وصنعتهم، خلال ثلث القرن الأخير، الآتين من شتى أنحاء عواصم السينما العالمية، عارضين جديدهم أمام محكمين بعضهم آت من بلدان عالمثالثية من الذين صنع بعضهم مجداً سينمائياً في “كان” ذاتها، والبعض الآخر مكانة يمكن التساؤل حول قيمتها السينمائية الحقيقية.
فمن اليخاندرو اينياريتو، المكسيكي المبدع الذي يرأس لجنة تحكيم المسابقة الرسمية، إلى اللبنانية نادين لبكي التي تسجل قفزات سريعة مدهشة في تراتبية الحياة السينمائية المهرجانية بفضل أفلام مدرّة للدموع ومثيرة للجدل… سيكون على مخرجين كبار من طينة تيرنس مالك وجيم جارموش وكين لوتش وبيدرو المودوفار وآرنو ديبليشان وحتى كوينتين تارانتينو، أن يُخضعوا إبداعاتهم متسابقين وغيرهم لنيل “السعفة الذهبية”!
وضع مدهش بالتأكيد، لكنه سيبدو طريفاً ومسلياً في نهاية الأمر… ولا سيما في دورة وضعت نفسها وملصقها تحت ظل المخرجة الراحلة قبل أسابيع آنييس فاردا، واختارت لجائزتها التكريمية الكبرى لهذا العام، نجم النجوم آلان ديلون الذي لا شك في أنه سينال القسم الأكبر من التصفيق يوم الإفتتاح، الذي سيبدو بعد أيام قليلة صاخباً، لا يدانيه في ذلك سوى صخب يوم الختام حين تعلن أسماء الفائزين بتقديم يوم عن الموعد المعتاد، بسبب حلول الإنتخابات الأوروبية.
ومهما يكن من أمر، من الممكن القول أن بعض الأفلام يمكنها في حد ذاتها أن تضمن الطرافة المتوخاة، بحيث تكون هي حدث هذا الدورة. فعلى سبيل المثال، ها هو جيم جارموش الذي أتحفنا قبل سنوات في دورة سابقة من “كان”، بفيلم عن مصاصي الدماء يدور بعض أحداثه في المغرب، ها هو يعود إلينا هذه المرة بفيلم لافتتاح المهرجان يعرض الثلثاء المقبل، عنوانه: “الموتى لا يموتون”، ويدور “بالطبع” حول “عودة الموتى”: الزومبي الذين يقومون من قبورهم ليهاجموا قرية آمنة فيكون على شرطيين فيها مقاومتهم.
فلسطين في كل المدن
ومن ناحيته، يعود الإسباني ألمودوفار الى ما يبدو أنه ماضيه السينمائي وطفولته وتكوّنه من خلال أناه/الآخر المعتاد أنطونيو بانديررا في دور المخرج، الذي يحاول في حقبة أفول له، أن يزور من عرفهم في الماضي ويتحرى أماكن أفلامه ومواضيعها في عمل قال نقاد إسبان إنه فيلم عن موت السينما أكثر مما هو تحية لها. زيارة من نوع مشابه ومختلف في الوقت ذاته، يقوم بها الفلسطيني إيليا سليمان في فيلمه الجديد (العربي الوحيد المشارك في المسابقة الرسمية)، الذي يعود به إلى السينما وإلى “كان”، بعد سنوات غياب طويلة وعنوانه: “لا شك أنها الجنة”. ففيلم سليمان بدوره فيلم عن سينمائي (هو مخرجنا نفسه ويلعب الدور بنفسه أيضاً)، يتجول بين ما يشبه مواضيع ثلاثيته السينمائية الفلسطينية البديعة، ولكن هذه المرة من خلال المدن التي يتشرد فيها، فيحسّ في كل واحدة منها أنه إنما يحمل الوطن الضائع إليها، بحيث تصبح هي وطنه المتعدد والمشتت في نهاية المطاف.
وشيء مثل هذا كما يبدو يحدث في فيلم الفرنسي آرنو ديبليشان “روبيه… ضوء ما” الذي يبدو أنه يعود هنا إلى ما كان بدأه من سبر للذات في فيلمه السابق “ثلاث ذكريات من صباي”، أو، على الأقل، هذا ما تسرب عن هذا الفيلم الذي يراهن عليه الفرنسيون كثيراً مراهنتهم على ما لا يقل عن خمسة أفلام فرنسية أخرى تنزل الى معترك التباري في رسميّة “كان”، من بينها فيلم: “مكتوب ياحبي… إستراحة” الذي يعتبر جزءاً ثانياً من ثلاثية جديدة، شرع التونسيّ الأصل عبد اللطيف قشيش في تحقيقها بعد عجزه عن استكمال جزء ثان في فيلمه الأسبق “حياة آديل” الذي حصل له على سعفة ذهبية مثيرة للسجال الأخلاقي قبل سنوات… ومن فرنسا أيضاً، فيلم “البؤساء” للادي لي، الذي تعود فيه إلى موضوع العمال المهاجرين وعصابات الضواحي والعنف الذي تعيش في خضمّه. وإلى حد ما، يبدو هذا الموضوع قريباً من موضوع فيلم عودة الأخوين جان – بيار ولوك داردين “الفتى أحمد”، الذي تدور في أوساط العرب البلجيكيين أحداثه التي تبدو شبيهة الى حد بعيد، من ناحية بفيلم “الأبواب المغلقة” للمصري عاطف حتاتة، ومن ناحية ثانية بإحدى أقوى روايات الكاتب الأميركي جون آبدايك. والموضوع في الأعمال الثلاثة واحد والهويات واحدة: طالب مسلم فتى يعيش شظف العيش مع أمه ليقع تحت تأثير شيخ إسلامي يحرضه على الأم في مرة وعلى أستاذه مرة أخرى ليذبحهما…
حنين على طريقة تارانتينو
طبعاً، يمكن القول إن فيلم الأخوين البلجيكيين منتظر بلهفة منذ الآن، فهما غائبان عن الساحة المهرجانية منذ سنوات، واعتادت أفلامهما أن تكون ذات حظوة وتحرك المهرجان. ويُنتظر أن تفعل ذلك هذه المرة. لكن لهما منافسين أقوياء في ردهات الإنتظار بالطبع: فهناك طبعاً كوينتن تارانتينو، الذي اعتادت أفلامه أن تنفجر كقنابل غير موقوتة في كل مهرجان تعرض فيه، حاملة التجديد والعنف والأفكار العميقة، وكل أنواع العداء للعنصرية والدروب الممهدة. بيد أن هذا كله قد يكون بعيداً هذه المرة في فيلم يحمل عنواناً لا يتسّق – ظاهرياً على الأقل -، مع ما اعتدناه من أفلام هذا المبدع الإستثنائي: “كان يا ما كان… كانت هوليوود”. ونقول “ظاهرياً” لأن من حقنا أن نتوقع أن نسمة الحنين والرومانسية التي يحملها هذا العنوان، تخفي وراءها، كالعادة لدى تارانتينو، ما هو أعمق من ذلك بكثير… وما علينا سوى الإنتظار، مثلنا في هذا مثل منتظري جديد تيرنس مالك “حياة خفيّة” (الذي يعود فيه صاحب “شجرة الحياة” و”خيط أحمر رفيع” إلى سينما الحرب من خلال منشق عن القوات الأسترالية خلال الحرب العالمية الثانية)، أو فيلم كين لوتش الجديد “آسفون لقد نسيناك” الذي يعود فيه إلى عوالمه الإجتماعية الإحتجاجية الأثيرة؛ أو حتى كزافييه دولان في جديده المنتظر “ماثياس وماكسيم”، من دون ان ننسى هنا حضورين كبيرين، أو من المتوقع أن يكونا كبيرين: حضور المخضرم الإيطالي ماركو بيلوكيو، الذي سيبدو مدافعاً عن جيل الستينات وسينماه الطيبة من خلال فيلمه الجديد “الخائن” الذي سيؤمن حضوراً إيطالياً نوعياً، بعدما حضرت السينما الإيطالية نوعاً وكماً في الدورة السابقة لتخرج متوجة بجوائز لافتة، وحضور الجيل البرازيلي الأجدّ من خلال كليبير ميندونسيا فيليو، الذي بعدما أدهش أهل المهرجان قبل أعوام قليلة بفيلمه البديع “آكواريوس”، ها هو يعود شريكاً في الإخراج هذه المرة متسابقاً في جديده “باكوراو”.
ليس هذا كل شيء… بل هو جزء يسير من أكثر من مئتين وخمسين فيلماً تُعرض في التظاهرات المختلفة وعلى هامشها، من تظاهرة “أسبوعي المخرجين” التي تعتبر مقفزاً أساسياً نحو الحضور السينمائي الكبير لمخرجين جدد أو راسخين، أو تظاهرة “أسبوع النقاد” التي تحفل عادة بمفاجآت مدهشة، أو خاصة “نظرة ما…” التي تكان تصبح منبراً لسينما العالم الثالث… من دون أن ننسى “كلاسيكيات كان” وعشرات العروض والمناسبات الأخرى ما سنعود اليه في رسائل مقبلة ولا سيما بقية ما تبقى من عروض المسابقة الرسمية وهوامشها…