سوليوود «القاهرة»
تزدحم الخارطة الدرامية العربية لموسم رمضان هذا العام بشكل ملفت، وفي متابعة لحلقات الأسبوع الأول من الشهر، بدت المنافسة قوية بين أقطاب صنّاع الدراما الأبرز في مصر وسوريا ولبنان والخليج، وذلك كما ورد في موقع قناة الحرة.
ويمكن ملاحظة عودة الانتعاش للدراما السورية بشكل عام، والدراما السورية ـ اللبنانية المشتركة بشكل خاص، المنطلقة من معادلة إنتاجية ـ تسويقية تبدو رابحة، قوامها استكتاب عدد من كتاب السيناريو المخضرمين بأفكار يمكن وصفها بالجديدة والجذابة جماهيريا، وتخصيص ميزانيات إنتاجية ضخمة لخدمة هذه الأعمال، واستقطاب بعض أشهر نجوم الغناء لأداء شارات الأعمال مثل شيرين عبد الوهاب ومعين شريف وغيرهم.
يمكن إدراج الدراما المسماة بـ”دفعة القاهرة” بالدراما التنويرية
إن كان من المبكر إطلاق الأحكام النقدية النهائية على الصنعة الدرامية لهذه الأعمال قبل اكتمالها، إلا أنه يمكن توقع النجاح والاستقطاب الجماهيري لعدد منها، انطلاقا من معايير فنية ثابتة، تنطلق بداية من جودة اختيار الفكرة الدرامية المبتكرة الأساسية، وكيفية معالجتها، والهدف أو الرسالة الدرامية التي تحملها؛ وهي معايير تبدو متحققة حتى اللحظة في عدد قليل من الأعمال، من بينها المسلسل الكويتي الذي حمل اسم “دفعة القاهرة” للكاتبة هبة مشاري حمادة ومن إخراج البحريني علي العلي.
يستعيد العمل زمن نهاية الخمسينيات من القرن الماضي بتفاصيله البيئية والسياسية والاجتماعية والفنية، ويرسمها بمشهدية جميلة ليحكي من خلالها قصة مجموعة من الطالبات والطلاب الكويتيين المتفوقين في شهادة الثانوية العامة الذين يتم إيفادهم في منحة تعليمية لإتمام دراساتهم العليا في جامعة القاهرة، بصفتها المنارة الثقافية والتعليمية العربية الأبرز في تلك المرحلة.
طالبات وطلاب كويتيون، تبرز من الحلقة الأولى اختلافاتهم الاجتماعية والطبقية في الكويت التي يمر العمل على تفاصيلها البيئية آنذاك مرورا سريعا، وهي مرحلة تعتبر زمنيا بداية انتقالها من حالة البداوة إلى المدنية وما رافقها بعد الاستقلال من نهضة سياسية وتعليمية وعمرانية بفضل الثروة النفطية التي فتحت الباب أمام الوافدين العرب الذين ساهموا في تحقيق هذه النهضة، دون إغفال الرؤية المنصفة للنص الدرامي لحلم الطبقة المسحوقة في حق التعلم وتغيير مصيرها نحو مستقبل أفضل، وهو خط درامي يبتدئ بأم فقيرة تخيط الثياب للأغنياء وتطمح بتغيير قدرها عبر تغيير قدر ابنتها المتفوقة، فلا تتردد في الاستفادة من المنحة التي هبطت عليهم مثل هبة قدرية وإرسال الابنة للدراسة في مصر، وهو خط درامي طموح وإيجابي تجسده شخصية الطالبة نزهة ويتوقع أن يكون من أكثر الخطوط الدرامية استقطابا وإعجابا، لانطلاق تغيير مصير الشخصية من خلال العلم وليس المال.
علمانية القاهرة زمن عبد الناصر، ستتجلى عبر مشهد تخلي الطالبات الكويتيات الموفدات عن عباءاتهن السوداء في الطائرة التي أقلتهن من الكويت إلى مصر، وهي عباءات تعتبر غطاء للرأس والجسد، ترتديها نساء الكويت وباقي نساء دول الخليج كزي تقليدي تراثي وليس ديني، ورغم ذلك يتخلين عنها ويصفنها بأنها لا تتناسب مع أجواء الجامعة والدراسة التي يقصدونها، ليتبارين لاحقا في ارتداء الثياب الأنيقة التي تتناسب مع روح الشارع المصري المنفتح في حينه وتندمج مع مكوناته.
“دفعة القاهرة”، مجموعة شبابية كويتية من الجنسين، حملوا معهم إلى القاهرة أحلامهم في العلم والحب ولقاء عبد الحليم حافظ وأم كلثوم، وباقي شخصيات ما سمي “بالزمن الجميل”، وانطلاقا من الملامح الأولى التي رسمت بها كل شخصية على حدة، ستعيش كل منها قصتها الدرامية الخاصة، وستجذب مغريات القاهرة البعض منهم وتسرقه من هدفه التعليمي، وستتقاطع مصائر الشخصيات فيما بينها لتثمر علاقات رومانسية تذرف بسببها دموع كثيرة، وسيعود بعضهم حاملا شهادته العليا، فيما قد يعود البعض حاملا الخيبة والفشل.
في رسالة هذا العمل الدرامية، لا يكمن الزمن الجميل في استعادة كوكب الشرق والعندليب الأسمر ونجوم السينما وزمن الرومانسيات وروح مرحلة الخمسينيات وانفتاحها فقط، بل يكمن بشكل خاص في فكرة إيفاد طالبات كويتيات شابات ينتمين لمجتمع محافظ في تلك المرحلة الزمنية في رحلة نحو الدراسة والتحصيل العلمي المتفوق في القاهرة التي تعتبر أرضا شديدة الإغواء بالنسبة لأعمارهن، وقياسا بالفروقات المدنية بين مجتمعهن وبيئتهن القادمات منها، والثقة بهن وبأهمية تعليم النساء ومشاركة حقهن هذا مع الرجل من أجل مستقبل طموح ومشترك.
هذه الدراما لم تنطلق فكرتها من جنوح خيال مؤلفة، وإن لعب الخيال دوره لاحقا في نسيج المعالجة الدرامية، بل بنيت على أسس وثوابت تاريخية قوامها حيوات سيدات ورجال كويتيون، انطلقوا حقيقة في تلك المرحلة من “الزمن الكويتي الجميل” للتحصيل العلمي في بعض الدول العربية ودول العالم، ثم عادوا إلى بلادهم وساهموا في نهضتها اللاحقة.
يستعيد العمل زمن نهاية الخمسينيات من القرن الماضي بتفاصيله البيئية والسياسية والاجتماعية والفنية
سيدات ورجال يظهرهم المسلسل في مطلع شبابهم في العشرينيات من أعمارهم، تجاوزوا اليوم الثمانين من أعمارهم، وربما يجلسون مع أحفادهم يتابعون قصصهم بحنين ويتذكرون دفعة القاهرة والدفعات اللاحقة التي حظوا بها، من فرص للتعليم وإعادة إنتاجه من خلال المناصب التي تولوها خلال السنوات الماضية كرؤساء جامعات أو نواب في البرلمان أو وزراء أو سفراء أو رؤساء تحرير صحف أو غيرها من المناصب التي ميزت الكويت كحاضرة ثقافية وعلمية وديمقراطية الهوى منذ الستينيات.
يمكن إدراج الدراما المسماة بـ”دفعة القاهرة” بالدراما التنويرية، وهو ما تحتاجه الدراما العربية بشدة أكثر من البهرجات الجمالية الفارغة من المحتوى أو مشاهد العنف المستشري على الشاشات طولا وعرضا.