هوفيك حبشيان
يرى كثيرون أن «قانون اللعبة» 1939 أهم فيلم فرنسي على مر العصور. يصعب إصدار حكم نهائي مبرم في شأن تفوق عمل سينمائي، مهما علا شأنه، على سائر الأعمال السينمائية التي سبقته وعاصرته أو تلته، وذلك لصعوبة حسم مسألة جمالية على هذه الدرجة من التعقيد، خصوصًا أن النظرة إلى الفنّ تتبدّل مع تبلور المفاهيم. لكن، يمكن القول من دون أن يعذّبنا ضميرنا، إن هذا الفيلم الذي أخرجه جان رونوار وكان آنذاك في الخامسة والأربعين، يحتل مكانًا بارزًا في مخيال السينيفيليين وقلوبهم، في سائر أنحاء العالم، وهو لا يزال يقول الكثير عن عالمنا الحالي، بقدر ما قال عن العالم في الزمن الذي أُنجِز فيه، وهذه ميزة الأفلام المتأصلة في زمن معين والعابرة للحظتها في الحين نفسه، كونها تتعاطى مع الشرط الإنساني لا فقط مع الحدث، كما هي الحال مع الأعمال الكلاسيكية.
«قانون اللعبة» حلّ في المرتبة الرابعة لاستفتاء أفضل 100 فيلم على الإطلاق الذي أجرته مجلّة «سايت أند ساوند» في العام 2012، ومشاهدته اليوم، بعد قرابة ثمانية عقود على إنتاجه، يؤكد جرأته وبراعته وطليعته. رونوار، ابن الرسّام أوغوست رونوار «أحد معلّمي مدرسة الانطباعية في الفنّ التشكيلي الفرنسي»، أقدم على انعطافة وهو ينجز هذا الفيلم؛ إذ تخلّى عن المذهب الطبعاني الذي سيطر على عدد من أفلامه السابقة، لمصلحة الأدب والمسرح الكلاسيكيين، فاتخذ من «نزوات ماريان» لألفرد دو موسيه نقطة انطلاقة، بيد أن «لعبة الحبّ والنصيب» لماريفو كان أيضًا أحد مصادر الوحي مع عناصر وتيمات استعارها من كلٍّ من بومارشيه وموليير. تأثير الأدب في الفيلم صارخ، لكن هذا لم يمنعه من أن يكون عملًا سينمائيًّا بصريًّا كاملًا متكاملًا. وبحسب رونوار نفسه، إن تعبير «الرقص على فوهة بركان» هو الذي حرضه على إنجاز هذا العمل الذي عُرض للمرة الأولى شهرين قبل اجتياح دبابات هتلر بولندا.
هناك نسخ مختلفة لـ«قانون اللعبة»، ذلك أن رونوار كان اضطر في تلك الفترة إلى اقتطاع مشاهد من هنا وهناك إرضاءً لرغبات الموزعين، الأمر الذي أحدث خللًا في بنية الفيلم، وجعله يرتقي إلى مصاف «التحفة الملعونة». بعض النسخ تضمّنت مشهد احتضار الأرنب الشهير خلال جولة الصيد، وبعضها الآخر شهد حذفًا له. يُقال إن النسخة التي شاهدها الجمهور في العام 1939 فُقِدت تمامًا وخرجت من التداول. النيغاتيف الأصلي أُتلِف تمامًا خلال القصف، وكان ينبغي انتظار العام 1958 كي يستثمر اثنان من محبّي السينما جهودهما لإنجاز نسخة قريبة إلى حد بعيد من الأصلية، لكن ليست مطابقة لها.
تعرض «قانون اللعبة» وهو الفيلم الرابع والعشرين لرونوار، لكثيرٍ من الانتقادات حين عُرض للمرة الأولى، قبل أن ينتهي أمره بفشل جماهيري في الصالات، وذلك بعد فيلمين «الوهم الكبير» و«الوحش البشري» حقّقا إيرادات عالية. روى رونوار أنه رأى رجلًا يحاول إضرام النار في الصالة التي كانت تعرضه، من شدّة غضبه وتعبيرًا عن اعتراضه. لكن عامًا بعد عام، وعرضًا بعد عرض، راح رصيد الفيلم يكبر فكرّسه الزمن، وهو الامتحان الأهم لأهمية أي عمل فني، كرائعة سينمائية.
مخرجو «الموجة الجديدة» الآتون من النقد، الذين كانوا يعادون بشكل شبه ممنهج معظم سينمائيي المدرسة السينمائية الفرنسية القديمة ما يُسمَّى بـ«النوعية الفرنسية»، انتصروا لهذا الفيلم وحملوه على راحاتهم. وصفه فرنسوا تروفو بـ«فيلم الأفلام» مفضّلًا إياه على كلّ ما شاهده في حياته. أما آلان رينه، الذي عاينه في منتصف الستينات، فترك الفيلم أثرًا عميقًا فيه وساهم في قلب كلّ مفاهيمه السينمائية. لم يقتصر التأثير الإيجابي للفيلم في العقود التالية لعرضه على الفرنسيين؛ الإيطالي برناردو برتوللوتشي وضعه فوق كلّ الأفلام، أما الأمريكي بول شرايدر فكتب عنه يقول: «إذا كان بإمكان فيلم واحد أن يمثّل جميع الأفلام الأخرى، فـ«قانون اللعبة» هو هذا الفيلم».
«قانون اللعبة» هجاء سياسي واجتماعي يحمل لمسة نقد لاذعة للمجتمع الفرنسي، رغم أن رونوار يحرص على التوضيح في مطلع الفيلم بأن ما يقدّمه لا يمت إلى الواقع الفرنسي بصلة، مصنفًّا عمله هذا بـ«الفانتازيا الدرامية»، بل شارحًا أكثر عبر استعمال الجملة الآتية: «هذا عمل ترفيهي تجري أحداثه عشية الحرب العالمية الثانية ولا يدّعي بأنه دراسة أخلاقية، إذ ان الشخصيات محض خيالية».
لكن في توضيحه هذا، بعض من الاعتراف الضمني بعكس ذلك. فرونوار، ابن البورجوازية الذي انضم إلى الحزب الشيوعي مضطرًا في فترة من الفترات، يعرف عمّا يتكلّم عندما يصوّر هذه الطبقة. «في فرنسا، من الصعب أن نتعاطف مع الأرستقراطية خصوصًا بعد الثورة»، يقول المخرج أوليفييه أساياس في مقابلة معه عن «قانون اللعبة». ومع ذلك ينجح رونوار في تقريبنا منها والضحك معها، لا عليها. هنا، بعض من ذكائه وحنكته.
الحكاية عن شخصيات من كبار القوم. الماركي شينيه «مارسيل داليو» هو الآمر الناهي في كلّ ما سيحدث على الشاشة من شد حبال ومفارقات وضربات مسرحية ستزعزع المبادئ وتنسف القيم، حيث الكلّ سيخون الكلّ، والكلّ سيصطدم بالكل. من خلال جولة صيد تدور فصولها في جوار منزل الماركي الفخم الواقع في منطقة سولون، واستضافة الأخير لعدد من الشخصيات الرمزية، يصوّر رونوار بدقّة وبراعة ولؤم والكثير من السخرية نظرية انهيار المجتمع الفرنسي وذلك عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية التي كانت ستقضي على المزيد من القيم.
خيوط درامية عدة تتداخل بعضها ببعض: خيانة الماركي لزوجته كريستين «نورا غريغور»، سيدة نمساوية هشّة ستكتشف علاقة زوجها خلال الحفل التنكّري الذي يلي جولة الصيد، ما سيجعلها تستسلم لإغراءات عدة أشخاص، أحدهم بطل قومي «رولان توتان» والآخر ما هو سوى صديق طفولتها أوكتاف، إنسان متطفّل وانتهازي يؤدي دوره ببراعة رونوار. وفي إسناد هذا الدور لنفسه، ثمّة رمزية؛ إذ إنه صلة الوصل بين كل الشخصيات المقوقعة على نفسها والمليئة باليقين الذي يصوّره المخرج ببعض السخرية. لا يتردد أوكتاف على مغازلة الجميع، من أعلى السلّم إلى أسفله.
تسيطر على الفيلم في بعض جوانبه، تأثيرات مسرحية تشمل حتى نوع التمثيل، ولكنها لم تشكّل عيبًا في ذاته، إذ إنها لم تفقده «سينمائيته» وإيقاعه الممتاز، بل ذهبت بعيدًا في توظيف السمة المسرحية. في الواقع، صوّر رونوار شخصياته وكأنها تعتلي خشبة المسرح ونحن المشاهدون نراها من على المستوى نفسه من النظر، قبل أن يفتح أبواب الفيلم على المسرح الغنائي. حتى مشاهد الصيد التي تُعد رؤيوية لأنها أقرب إلى مجزرة تنذر بالويلات القادمة على أوروبا، فيها شيء من المسرح. وقد يتأتى هذا الإحساس بالمسرح من حقيقة أن معظم الأحداث يجري في منزل الماركي الفخم، حيث تكثر المرايا وانعكاساتها والغرف وأسرارها والسلالم ودرجاتها. في هذا المنزل يحشر رونوار الأثرياء والخدم، ليزجنا من خلال الاشتباكات العاطفية ولعبة الكر والفر المتواصلة، في «ميكروكوزم» للصراع الطبقي في فرنسا الثلاثينات، لكن مخالفًا المفهوم الماركسي لذلك الصراع.
الحوارات، وهي أيضًا تحمل لمعة أدبية، من النوع الذي يصمد في الذاكرة، خصوصًا تعليق أوكتاف الذي بات شهيرًا: «هناك على هذه الأرض هذا الشيء الرهيب وهو أن لكلّ إنسان أسبابه وحججه». إنها الجملة المفتاح التي يمكن قراءة كلّ تصرفات الشخصيات انطلاقًا منها، فكلّ شخصية تتصرف وفي اعتقادها أنها تفعل الصح، لا تشك لحظة بأن ما تقوم به قد يكون خطأً. أما القانون الذي يتحدّث عنه العنوان والذي تخضع له كلّ الشخصيات، فهو متغير، يتبدّل وفقًا للطبقة التي تنتمي إليها الشخصية. الأفعال نفسها تترتب عليها نتائج مختلفة. كلّ شيء يتوقّف على الكائن والطبقة التي ينتمي إليها. هناك علاقة مهيمِن ومهيمَن عليه «بعيدًا من التنميط، قائمة على مبدأ الإغواء»، لكن فقط المهيمَن عليه يدفع ثمن انتهاكه لقانون اللعبة وخروجه على شروطها.
جان رونوار، هذا السينمائي الذي كان يعد نفسه حكواتيًّا أكثر من كونه أي شيء آخر، يروي هنا الأكذوبة، مبررًا إياها على لسان أوكتاف: «الكلّ يكذب في أيامنا هذه، من الصيدلاني إلى الإذاعة، فلمَ نمتنع نحن عن الكذب»؟ إلى الأكذوبة، تطل الغيرة برأسها، لكن بأسلوب هزلي رغم جدية المسألة، لنجد أنفسنا في نهاية المطاف بين عالمين تراجيدي وكوميدي، فتداهمنا مشاعر الخوف والريبة، وصولًا إلى حيث لا يعود الضحك ممكنًا.
أنجز رونوار «قانون اللعبة» في فترة تيه سياسي، وفقدان الأمل في كلّ المعسكرات، وتتجلّى هذه الفكرة على لسان أوكتاف الذي يقول إنّه يرغب في الاختفاء عن وجه الأرض، كي لا يتسنّى له التفكير بالخير والشر.
بين الحوارات والحركة، لا يبدو أن رونوار يفضّل واحدة على أخرى، فكلتاهما تنسجم لتقدّما رؤية غير مسبوقة للعلاقات الاجتماعية التي تحكمها التراتبية، وذلك بمقاربة جمالية لا يزال إلى اليوم تأثيرها كبيرًا في المُشاهد. أما الإيقاع، فهذا أيضًا يستحق الإشارة إليه: وليد المونتاج من جهة والأجساد التي تتحرك داخل الكادر من جهة أخرى. مع هذه اللمسة البورليسكية التي تذكّر بتشارلي تشابلن، لكنها تختلط بتراث كوميدي فرنسي عريق. تقنيًّا، سبق الفيلم زمانه، خصوصًا على مستوى استخدامه عمق الشاشة بوضوح تام لتوظيف درامي تحوّل إلى مدرسة، وعلى صعيد القدرة على التعبير عن الحركة المتواصلة حتى عندما تكون الكاميرا ثابتة في أرضها.