سوليوود «وكالات»
«أنا فرنسي وإلا كيف تفسر هذه اللكنة النشاز؟» يسأل القائد الفرنسي دوفان الملك البريطاني الشاب أمير منطقة ويلز الذي ليس لديه ما يقوله ردّاً على هذا السؤال. لكن وروده في فيلم جاد مشتق من صفحات ويليام شكسبير (ولو نتفاً ومن دون عباراته) يشبه واحدة من النكت التي كانت مجلة «ماد» الساخرة تلقيها على صفحاتها عندما تتهكم على أحد الأفلام. تلك العبارة كانت ستثير الضحك منها هناك لكنها تثير الضحك عليها هنا. كانت ستستدعي عبارة مضادة مثل «اعتقدتك إغريقيا» أو «لا بد أنك سهرت طويلاً تفكر في هذا السؤال». هنا الرد هو وجوم، وذلك كما جاء في الشرق الأوسط.
يرد هذا المشهد بغية التمهيد للحرب التي ستقع بين الملك والقائد الأمير. الأول يؤديه تيموثي شالامت والآخر يؤديه روبرت باتنسون. وكل ذلك يرد في فيلم «الملك» الذي عرضه مهرجان لندن السينمائي الذي يختتم دورته الـ63 مساء هذا اليوم (الأحد).
الغالب في دورة هذا العام هو أن المهرجان، إذ ضخ أكثر من 300 فيلم قصير وطويل ونقل عروضه إلى شاشات متعددة في لندن وحولها وأفرد للصحافيين والنقاد عروضاً خاصاً لمعظم هذه الأفلام، حافظ على ما أنجزه في السنوات الأخيرة من حضور. هو المهرجان البريطاني الأكبر، هذا مفهوم، ومهرجان المدينة الأوحد وهذا أيضاً مفهوم، لكنه ما زال واحداً من تلك المهرجانات الكثيرة التي تتنافس، من دون طائل، على مكان لها في الصف الثاني.
يمكن معرفة مستوى المهرجان من جوائزه. بحسب أهمية الجوائز يأتي فينيسيا في المركز الأول. «كان» في المركز الثاني، «برلين» في المركز الثالث. بعد ذلك تتنافس بضعة مهرجانات للاستحواذ على القدر الأعلى من الأهمية: صندانس، لوكارنو، كارلوفي فاري، أنيسي، نيويورك، سان سابستيان وبوسان. بعد ذلك يأتي لندن ومعه شيكاغو وموسكو وساراييفو وثيسالونيكي وبالم سبرينغز وكل المهرجانات العربية في ذلك الصف الثاني الذي لا تعني جوائزه، غالباً، إلا ذلك القدر من التباهي الذي يحصده صانعو الفيلم الرابح.
«صندانس» يأتي الرابع في أهمية تلك الجوائز كونه مقصد شركات التوزيع الباحثة عن أفلام بديلة تشتريها. بالتالي معظم الأفلام التي تفوز هناك تجد قنوات بيع جاهزة لعرضه خلال العام وخصوصاً في هذه الفترة الحالية من موسم الجوائز.
حقائق موازية
ليس الحق على لندن. هذا مهرجان للمقيمين وما زال بعد كل تلك العقود يعتمد بشدة على الأفلام التي سبق لها وأن عرضت في مهرجانات أخرى. وهذه السنة، كالسنوات السابقة، هناك الكثير منها. ما يحتاج إليه لكي يصبح رابع أو خامس المهرجانات المهمة لا يمكن توفيره وهو سوق للفيلم يعزز حضور المشترين والبائعين. السبب يعود إلى أن لندن هي مركز توزيعي مهم وسوق سينمائية مفتوحة طوال أيام السنة بمكاتب تمثل العديد من الدول المحيطة بها أو تلك البعيدة.
وإذا ما لاحظنا فإن المهرجان الوحيد المنتمي إلى تلك الأحداث القممية في هذا المجال والذي يقع في عاصمة ما هو برلين. الباقي تتوزع بين البحر (فينيسيا و«كان») والجبل (صندانس). لكن مدينة برلين ليست مثل لندن. صحيح أنها تزخر بالأفلام طوال العام وفيها مكاتب وممثلون، لكنها ليست عاصمة سينمائية بقدر ما نيويورك أو هوليوود أو لندن أو باريس. لذلك أقدمت على إزالة هذا العائق المعادي للنمو بإنشاء سوق سينمائية لتشجيع الانتقال إليها واعتمادها كحدث لا بد منه.
«الملك» هو أحد الأفلام التي استوردها مهرجان لندن من عروض أخرى (فينيسيا وتورونتو). فيلم جيد حققه ديفيد ميشو منزوع الصفحات من النص المسرحي والأدبي الراقي لملك الدراما والكوميديا المبطنة ويليام شكسبير مع تصرف شبه كامل بالحوار.
في الواقع الحوار يتبع الفيلم والنتيجة شيء مثل «دايت كوك» تشربه مع بعض الانتعاش ثم تنساه مع الكثير من الانتفاخ.
يقوم مبشو بإيجاز الأحداث الكثيرة والشائكة. يطوي السيناريو الكثير من الصفحات ويكتب نصوصاً ليست مختصرة فقط بل مختلفة كون الرغبة ليست في نقل النص بل الحدث. بذلك هو فيلم شكسبيري من دون شكسبير. والمعالجة، لولا، هذه الحقيقة، تخدم هذا التوجه. تستطيع أن تنسى الأصل وتستمتع بفيلم معارك طاحنة وعنيفة على الطريقة القديمة. صحيح أنه يخلو من العمق الذي نجده في «قلب شجاع» (Braveheart لمل غيبسون، 1995) لكنه يلبي الرغبة في نهاية المطاف.
تاريخ أسترالي
العنف موجود كذلك في رحى الفيلم الأسترالي «التاريخ الحقيقي لعصابة كيلي» للمخرج جوستن كورتزل. هذا سبق له وأن تعامل مع شكسبير على نحو أفضل عندما حقق «ماكبث» قبل أربع سنوات. هنا يلتفت إلى رواية وقعت أحداثها بالفعل في أواخر القرن التاسع عشر ويمنحها الكثير من الحداثة العصرية.
عصابة كيلي عبارة عن زمرة أسترالية خارجة عن القانون قادها ند كيلي انتقاماً لاعتداءات رجال القانون على عائلته التي لا تخفي كرهها للحكومة والسُلطة. هذا أحد سببين مهمّين. السبب الآخر هو التفاوت الطبقي الذي، ككثير من الحالات المشابهة، يوعز لمن لا يملك القيام بثورة ولو ببضعة رجال كحركة احتجاج على الوضع الصعب.
تعاملت السينما مع هذه العصابة منذ سنة 1906 عندما قام الأسترالي تشارلز تيت بتحقيق «قصة عصابة كيلي» (The Story of Kelly Gang) الذي كان، بدقائقه السبعين، أول فيلم روائي طويل تم إنجازه حول العالم. بعده هناك نسخ مختلفة من حكايات العصابة منذ عام 1920 وصولاً إلى سنة 2003 ومروراً بأكثرها شهرة وحضوراً «ند كيلي» للبريطاني توني رتشاردسون (قام ببطولتها مغني فريق «رولينغ ستونز» ميك جاغر).
في المبدأ الحكاية ذات أحداث تقليدية: البيت الذي ينظر إلى المستعمر الإنجليزي بعداء مستحكم (سبب آخر لثورة ند كيلي) والرجال الذين سيقودون القتال ضد قوات القانون الشريرة والبطولة التي يجسدها ند كيلي طوال الفيلم. بذلك هو شديد القرب بأي من نسخ «روبن هود» ومن تلك النسخ المتعددة لعصابة جيسي جيمس في الولايات المتحدة التي صنع منها عشرات أفلام الوسترن.
هناك الكر والفر والكاميرا المثبتة على شخصيات الفيلم لكي تساعدها على عكس ما تمر به من عواطف عاصفة. لا يدعي الفيلم أن ما يعرضه هو ما حدث لأنه مبني على رواية (كتبها بيتر كاري) لا تدعي بدورها أنها تؤرخ لما حدث بل تلويه لما يناسب المقام. والفيلم يتبع خطواته تلك بما فيها الادعاء منذ مطلع العمل بأن ند كيلي كان الأب غير الشرعي لابنة تمنى لو يلتقي بها في حين أن التاريخ لم يأت على ذكر أبوّته لا الشرعية ولا غير الشرعية لأي مولود.
جورج ماكاي يقوم بهذا الدور (وسنراه قريباً في «1917» لسام مندس) ومعه في الفيلم راسل كراو و(زوجة المخرج) إيسي ديفيز. في نتيجته فيلم قتال مفتوح يخسر بعض أهميته مع توالي الرغبة في توفير المزيد من تلك المشاهد وبالعنف الذي يعتقد المخرج أن الفيلم يحتاجه.
البرابرة على الحدود
الأفضل بين ما سبق هو «في انتظار البرابرة». نعم، هناك بعض العنف في مرافقه لكن العنف الناتج عن السلوك المتعسف هو الذي يتجسد في فيلم المخرج الكولمبي سيرو غويرا. هذا سبق وأن تناولناه حين شوهد في مهرجان فينيسيا: مارك ريلانس مسؤول عن حامية من الجنود الذين يذودون عن المكان إذا ما هوجم، لكن هذا المندوب البريطاني المزروع في بعض نواحي آسيا الصحراوية (شرقي أوروبا) يعلم أنه توصل إلى علاقة جوار طيبة مع القبائل التتارية غير البعيدة. حين يصل قائد عسكري مدجج (جوني دب) يغير كل هذا الهدوء بقيادة حملة عنصرية المبدأ وعنيفة النتائج يساعده في إتمامها نائبه الذي لا يقل سادية (روبرت باتنسون أيضاً). معارضة المندوب للحملة تؤدي لاعتقاله وتعذيبه ثم تحوّله إلى كناس. لكن القائد ومعاونه وجنودهما يدفعون الثمن غالياً في موقعة أخيرة.
لا يهتم غويرا كثيراً بالمعارك. عملياً لا نرى شيئاً يُذكر منها، لكن اهتمامه منصب على الشخصيات وكيف تتوزع حول مفهوم الاستعمار «الكولونياليزم» والتضاد بين المعاملة الإنسانية وتلك المناوئة. مارك ريلانس جيد في دور ذلك المندوب الذي لن يجيد سوى أن يحب وجدانياً سواه من البشر. في المقابل، لا يجيد القائد المتعنت سوى ممارسة تميّزه العرقي على من سواه. مشاهد لافتة للصحارى ونقلة كاملة من جو سينما الأكشن الفانتازي الممتزج بالتاريخ إلى أجواء درامية متكاملة.
البعد المتمثل في كل ذلك هو القول بأن البرابرة ليسوا من اعتبرهم الغازي كذلك، بل الغزاة أنفسهم. المشكلة في أن هذا البعد أوضح من أن يضيف الثراء المطلوب والمخرج في رغبته استبعاد فيلم قائم على منوال أفلام المغامرات التاريخية يجد البديل لكنه يخفق في جعله بديلاً كافياً.