محمد رُضا
لمن يعرف لندن منذ عقود ويمر بها اليوم سائحاً، تستوقفه -إذا ما كان من رواد السينما وعشاق الأفلام- المحطات التي عنيت له أكثر من سواها.
أخذتُ الحافلة من ميدا ڤايل إلى البيكاديللي. مشيت في كوينزواي وأكسفورد ستريت وعرّجت على هاي ستريت كنسينغتون ومررت بماربل آرتش وادجوار رود. في كل زاوية توقفت عندها كانت هناك صالة سينما شاهدت فيها أفلاماً من كل نوع ومستوى. الآن هي إما تحولت إلى مطاعم وإما إلى محل ملابس وإما إلى مركز ألعاب وإما ما زالت مغلقة فقط.
في بيروت الوضع ذاته. ليس فقط لأن المولات خطفت الروّاد إلى مراكز تجارية توفر التجول بهواء المكيّفات المريح بين العديد من المحال الأخرى والمطاعم قبل دخول صالة السينما فيها، بل أيضاً لأن حب ارتياد صالات السينما في عاصمة كانت مثل «السينماتِيك فرنسيز» في باريس، انحسر عن الناس وسط ظروف البلد الاقتصادية البائسة.
مشكلات غير معهودة
في صوفيا، بلغاريا، حيث قضيت بضعة أسابيع قبل حين، لن تجد فيلماً بلغارياً في أيٍّ من صالاتها. كلها أفلام أميركية. هذا كان الحال نفسه قبل نحو عشرين سنة عندم جُلت في العاصمة الأوكرانية بحثاً عن فيلم أوكراني أو روسي أشاهده حتى ولو لم يكن مترجماً للإنجليزية (وهو لن يكون) فلم أجد إلا أحد أفلام رامبو والعديد من النسخ الشبيهة.
هناك، ليس بعيداً عن إحدى الصالات التي استفادت من الانفتاح الرأسمالي باستقبال الأفلام الترفيهية الخفيفة أتذكر امرأة عجوزاً افترشت طاولة صغيرة عليها نحو عشر حبّات بطاطا وحذاء قديم تعرضه للبيع.
قبل أكثر من مائة عام، تنبّأ لوي لوميير بأن «السينما اختراع بلا مستقبل».
وكم كان على خطأ. في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر وُلد الفن السابع كفرجة للترفيه وإثارة التعجب وانتقل خلال سنوات قليلة إلى أفلام مشغولة بحب معرفة كيفية وضع صورة تلو أخرى لسرد حكاية أو لانعكاس موقف أو إيصال رسالة. في مطلع العقد الثاني من القرن العشرين اكتمل السعي لسرد سينمائي على النحو الذي ما زال معمولاً به اليوم: فن الصنعة مع فن الحكاية وصولاً لجمهور شاسع الرغبات ومستويات القبول.
وقبل 100 سنة تأكد للجميع أن السينما وُلدت لتبقى وأن المخرج أكثر من مجرد راوي قصة تُسند إليه مهمة تصويرها. أفلام تلك الفترة ضمت ارتقاءً على الناحيتين الفنية والترفيهية كما الحال في «حجرة دكتور كاليغاري» للألماني روبرت واينـ، و«أرملة بارسون» للدنماركي كارل تيودون دراير، و«الخارج عن القانون وزوجته» للسويدي فكتور سيوستروم، و«أتهم» للفرنسي آبل غانس، وكل ذلك على جانب أفلام عديدة لمخرجين أميركيين وضعوا نقاط الصنعة على حروف السينما مثل سيسيبل ب. دميل وديفيد وورك غريفيث وبستر كيتون وإنغرام ركس وأرنست لوبيتش.
الحال ماثل إلى اليوم: أفلام ترفيهية وأفلام فنية. الأولى تسود صالات السينما في كل مكان والأخرى تنتشر على شاشات المهرجانات السينمائية. الأولى تعيش من وراء إقبال الجمهور المحب للترفيه، والأخرى من وراء محبي ومتذوقي فن السينما.
لكن ما وراء هذه النظرة الخارجية هناك مشكلات لم تعهدها السينما من قبل. نعم واجهت تحديات متواصلة وقفزت فوقها واستمرت باندفاع متجاوزةً عراقيل مختلفة، لكن الوضع الحالي هو مفصلي أكثر من سواه.
السينما الجماهيرية اليوم تجد نفسها أمام اختيارين: واحد اسمه «ديزني» والآخر اسمه «نتفليكس». الأول فرش عباءته على كل المعمورة بأفلام مستنسخ بعضها من بعض تستطيع أن تنقل الحكاية في أحدها إلى فيلم آخر من دون الحاجة إلى أي تعديل فعلي. والاختيار الآخر هو أن تبقى في البيت تشاهد على مقعدك الوثير بينما تأكل من عنقود العنب أو ربما تمسك بفخذ الدجاجة وعيناك على الشاشة. أمر لو تخيّل إنغمار برغمن أو روبير بريسون أو مايكل أنغلو أنطونيوني أو أندريه تاركوفسكي احتمال حدوثه لأُصيبوا بصدمة منعتهم من صنع الأفلام.
«ديزني» جيّشت سيلاً من الأفلام واستحوذت على مليارات الدولارات وحجّمت من الشركات الأميركية الكبرى الأخرى. منذ نحو خمس سنوات وأفلامها هي التي تتصدر قوائم أفضل الإيرادات. وهذا العام نجد أن خمسة من أفلامها جمعت مليارات الدولارات وهي على التوالي:
1 – Avengers: Endgame: $1,937,042,204
2 – The Lion King: $1,599,814,249
3 – Captain Marvel: $1,126,129,839
4 – Toy Story: $1,053,387,196
5 – Aladdin: $1,037,340,115
أدوار مختلفة
وبينما الناس تتلهى بمشاهد المخاطر والبطولات الخرافية تُعزز من دون أن تدري سُلطة المؤسسة الواحدة التي تستطيع الاستمرار على هذا المنوال واستحواذ الهيمنة. الشركات الأخرى ما عليها سوى أن تبحث عن بديل أو تقلد. لكن المسألة لا تكمن فيما ستقوم به هذه الشركات الأخرى بقدر ما هي في الضحية الذي هو المشاهد ذاته الذي سيُقبل على الوليمة ذاتها طويلاً قبل أن يتساءل عن السبب في ذلك.
«ديزني» نجحت في تعليب المشاهدين وجعلهم روّاداً صاغرين لما تعرضه. كيف نفسر ما سبق وفوقه أنها في العام المنصرم استحوذت على المراتب العليا ذاتها بعشرة أفلام فقط، بينما كل شركة من الشركات المنافسة (وورنر، يونيفرسال، باراماونت، صوني، فوكس) أنتجت أكثر من هذا العدد ولم تسجل إلا نجاحات قليلة؟
في الصالات إذن لدينا شعار «ديزني» على الملصقات والإعلانات وعلى الشاشات. أما في البيوت فتملك ناصية الموقف شركة «نتفليكس» التي تعمل على منوال أن تنتقل السينما من مفهوم الشاشة العريضة والصالة التي يتشارك الجلوس فيها الناس إلى مفهوم البيت حيث يشاهد المرء ما يريد من دون الخروج من المنزل وقيادة السيارة إلى المركز التجاري وصعود سلالم والوقوف في الصفوف وشراء المثلجات و«البوب كورن» والجلوس فوق مقعد إذا غادره للحظة فاته المشهد برمته.
إنه الخيار الصعب، أن يجد الباحث عن أفلام جيدة نفسه كما لو كان ينتمي إلى مخلوقات نادرة ما زالت تعاين الحياة على الأرض للمرّة الأولى. شخصيات تدير ظهورها إلى حيث يقبل الناس فتبحث -فيما تبقّى من صالات الفن والتجربة وسينما البدائل- عن أعمال جديدة خرجت من المهرجانات الأخيرة بفوز أو من دونه.
لكن حتى هذه المهرجانات وأفلامها لا تقوم بأدوارها ذاتها السابقة. باتت بدورها تستند، ولو بحدود، إلى إسهامات سينما المنازل كما الحال مع «الآيرلندي» لمارتن سكورسيزي الذي سيفتتح مهرجان نيويورك، ومع «روما» الذي افتتح مهرجان فنيسيا في العام الماضي.
نعم هي تعرض المختلف عن السائد، لكن هذا المختلف عن السائد الذي ما زلنا نهلل له ليس بالقيمة
الفنية ذاتها مع ما سبقه من النوع ذاته. القلة فقط من أفلام المهرجانات ترتقي إلى فن لا يمكن تجاهله. الغالبية هي شغل على الإعلام كسبيل (شبه وحيد) لإثارة تلك المخلوقات الأرضية التي ما زالت تبحث عن بديل.
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط