حسام عاصي
في ثمانينيات القرن الماضي، كانت بريطانيا تمر في مرحلة اقتصادية صعبة نتيجة سياسات رئيسة الوزراء آنذك مارغريت ثاتشر، التي قامت ببيع مؤسسات القطاع العام للقطاع الخاص، مما أسفر عن ارتفاع معدل البطالة واندلاع الاضطرابات الاجتماعية والاستقطاب السياسي وظهور الحركات العنصرية المعادية للمهاجرين، وتحديدا الهنود والباكستانيين، الذين كانوا في تلك الأيام أكبر أقلية عرقية في بريطانيا.
فيلم جديد وهو «بلاينديد باي ذي لايت»«أعماه الضوء» يعود الى تلك الفترة ليطرح تجربة مراهق مسلم في مرحلة التعليم الثانوي، يدعى جافيد، كان يقطن مع عائلته الباكستانية في مدينة لوتون شمال لندن، حيث كان يعيش في صراع دائم: في داخل البيت كان والده المحافظ يتحكم بحياته ويرفض ممارسته لكتابة الشعر لكونها غير مربحة ويحثه على التشبث بتراثه ودينه، ويحذره من التلوث بالحضارة الإنكليزية. وعندما يخرج من البيت بحثا عن الحرية في المجتمع البريطاني، يواجه المسبات والتنمر والضرب من قبل العنصريين.
الأمور تتأزم عندما يُفصل والد جافيد من وظيفته في مصنع محلي، فيضطر أن يبحث عن عمل لكي يساهم في إعالة عائلته.
جافيد يصاب بالاحباط ويفقد الأمل في أن يحقق أحلامه وأن يصبح يوما ما كاتبا. لكن حياته تتغير تماما، عندما يعرّفه صديقه السيخي على موسيقى مغني الروك الأمريكي الشهير، بروس سبرينغستين، الذي تنقذ كلماته جافيد من واقعه المر وتبث فيه روح الأمل والتفاؤل والثقة في النفس. لكن في الوقت نفسه، يزداد غضب عائلته منه ويتهمونه بالتنكر لحضارته والانحلال الأخلاقي وكراهية نفسه ويحثونه على الاستماع لموسيقى باكستانية.
قصة حقيقية
قصة الفيلم مستلهمة عن تجربة الصحافي البريطاني المسلم، سرفراز منصور، الذي كتب قصة حياته في كتاب نشره عام 2007. «في ذلك الوقت، كنت في السادسة عشرة من عمري وكنت أواجه مشاكل مع والدي قليلا، وأردت أن أقوم بأمر مختلف في حياتي وقد أتاني سبرينغستين في اللحظة التي احتجته فيها، وقال كلمات كنت في حاجة إلى سماعها»، يقول لي سرفراز، عندما التقيت به في فندق لندن في لوس أنجليس، حيث كان يروّج للفيلم.
المثير هو أن هذه المرة الأولى، التي نشاهد فيها شابا مسلما في فيلم غربي يجد منفذا لمحنته في أغاني موسيقي أمريكي بدلا من الانخراط في صفوف حركات إسلامية متطرفة أو إرهابية. لكن سرفراز ينكر أن الدافع لصنع الفيلم كان تغيير النظرة النمطية تجاه الشباب المسلمين في الغرب.
«ذلك الموضوع يتجاوز نطاق ما نحاول القيام به»، يقول الصحافي، مؤكدا أن الهدف كان سبر علاقته بسبرينغستين وحسب. «لقد جعلني بروس أتعمق في حقيقته، كان يغني أغاني عن نشأته في حديقة اسبوري في نيو جيرسي، وعن والده والمصنع في بلدته وتتعاطف مع قصص أشخاص حقيقيين، ومن خلال القيام بذلك أصبح قادرا على التواصل مع الآخرين ومعي شخصيا».
سبرينغستين، الذي يعتبر أحد أشهر نجوم الروك في العالم، أيضا ولد لعائلة من الطبقة العاملة في مدينة نيوجيرسي عام 1949، وعاش التحديات التي عاناها الأمريكيون البسطاء، ممن دفعوا ثمن حرب فيتنام الفاشلة في الستينيات والسبعينيات وسياسة السوق الحرة، التي سلبت وظائفهم في الثمانينيات. تلك الأحداث مسّت به شخصيا إذ أنه خسر أعز صديق له في حرب فيتنام وعانى من فظاظة والده الذي خضع للادمان على الكحول بعد فصله من وظيفته. وفي بداية السبعينيات لجأ للموسيقى للتنفيس عن مشاعره من خلال كتابة أغان تحاكي مشاكله الشخصية والعائلية وأحلام واحباطات الطبقة العاملة الأمريكية. وذلك ما جذب المخرجة البريطانية – الهندية غريندار تشاذا لقصة الفيلم، المسمى على اسم أغنية سبرينغستين الشهيرة «بلاينديد باي ذا لايت».
وعندما قابلت غريندار، كشفت لي أنها أيضا كانت من معجبي سبرنغستين منذ الثمانينيات. «إنه يروي قصصا ذات طابع سينمائي للغاية. هو يكتب منذ 50 عاما وكلماته أكثر أهمية الآن من أي وقت مضى لأنه يكتب ويروي قصصا عن الناس العاديين، واللاجئين وضحايا الحروب والعاطلين عن العمل وكل شخص عادي يحاول التأقلم وتربية أسرة وبينما يكافح في ذلك يحاول أيضا البحث عن الأمل والتفاؤل. أن هناك أرض فرص في مكان ما وعليك أن تجتهد للعثور عليها. هذه تجربة المهاجرين في جميع أنحاء العالم».
مثل منصور، واجهت غوريندار أيضا العنصرية عندما هاجرت مع عائلتها السيخية من كينيا الى بريطانيا في بداية الستينيات. كما عانت كذلك من تزمت عائلتها التي أرادت أن تفرض عليها التقاليد الهندية مثل لبس الأثواب الطويلة وعدم الاختلاط مع الرجال والقيام بأعمال المنزل والطبخ، لكنها تمردت عليهم وعلى تقاليدهم، وتزوجت من خارج ملتها. لكنها تنكر أن انخراطها في سلك صنع الأفلام كان تحديا لعائلتها.
قوة الكاميرا
«دخلت المهنة لأنني أدركت مدى قوة الكاميرا في السيطرة على هويتنا»، تعلق المخرجة أبنة الـ 59 عاما». وكنت أرغب في السيطرة على قصصنا ورواية قصص تسلط الضوء على أشخاص يشبهونني من وجهة نظرنا، ولكنها تتوجه الى جمهور عام وتجاري كبير».
كانت غريندار المخرجة الهندية الوحيدة في بريطانيا عندما بدأت مسيرتها السينمائية أوائل التسعينيات. ومنذ ذلك الحين تحرص في أفلامها على تناول قضايا الهنود، وتحديدا النساء، وأزمات الهوية الحضارية والدينية التي يواجهونها في بريطانيا. ولا تنكر أن معظم أفلامها تبدو مستلهمة من حياتها الخاصة، فدائما تكون فيها علاقة رومانسية من أعراق أو ديانات مختلفة وتعيش شخصياتها الهندية في أزمة هوية حضارية أو دينية»، هذا أمر طبيعي. كل مخرج يصنع أفلاما تمسه»، ترد ضاحكة.
ومن أبرز أفلامها «لفها مثل بيكهام»، الذي يعتبر أكثر الأفلام البريطانية الأسيوية دخلا، ثيمة الفيلم لا تختلف عن ثيمة فيلم «بلاينديد باي ذي لايت»، إذ أنه يطرح قصة فتاة سيخية تتمرد على عائلتها المحافظة وتنضم لفريق كرة قدم للبنات.
«بالتأكيد، قطعا»، تعلق غريندار، الحاصلة على رتبة الأمبراطورية البريطانية. «أعتقد أن فيلم «بلاينديد باي ذي اللايت» هو نوعا ما إبن عم روحي لـ «لفها مثل بيكهام». لكن ذك الفيلم كان قبل 17 سنة، ومنذ ذلك الحين، لم يصنع أحد فيلما في ذلك العالم، ورغم إلحاح الناس، لم أرغب بصنع جزء جديد له، ولكن شعرت الآن أن الوقت قد حان لانتاج فيلم آخر يقع في المجتمع الأسيوي. لكن هذا يختلف لأنني أحب بروس سبرينغستين».
لكن رغم حبها لسبرينغستين وصنعها فيلما عن فتاة استلهمت طموحاتها من نجم كرة القدم الانكليزي ديفيد بيكهام، إلا أن غريندر لم تستلهم أحلامها من شخصية ما. «لم أعلم قط أنني سأصبح صانعة أفلام ولم يكن ذلك خيارا لي لأنني لم أعرف أي مخرج أفلام يشبهني ولم أعرف أحدا في هذا المجال. لقد وقعت فيه من خلال ممارستي للصحافة. ما حفزني كان الفرصة لإحداث تغيير ما، واستخدام المهنة كوسيلة لمكافحة العنصرية والتمييز. أردت أن أروي قصصا تجعل الأشخاص الذين يشبهونني وعائلتي عاديين وطبيعيين مثلك ومثل أي شخص آخر. لأنه حتى اليوم لا يوجد مخرجات ومخرجون آسيويون يقومون بأفلام عن التجربة الآسيوية في الشتات. من النادر من أن تُصنع هذه الأفلام أو تُشاهد في دور العرض».
معضلة الممثل الأبيض والأجانب
غريند، تدرك أن درب التغيير ليس سهلا. فرغم نجاح أفلامها تجاريا، الا أن ممثليها الهنود لم يحققوا النجومية، مثل الممثلين البيض. فبطلة «لفها مثل بيكهام» الهندية، باريندار، اختفت عن الانظار بعد نجاح الفيلم الهائل، بينما تحوّلت الممثلة المساعدة الإنكليزية، كيرا نايتلي، الى نجمة عالمية، تؤدي أدوارا بطولية في أبرز أفلام هوليوود.
«للأسف لم تكن لها أدوار في أفلام مثل الأدوار التي تُعرض لكيرا»، تقول غريندر. «لكنني أظن أن الأمور مختلفة الآن. باعتقادي أن فيفيك (بطل بلاينديد باي ذي لايت) سيغدو نجما كبيرا. الآن هو الوقت الذي يتطلع فيه الناس لمشاركة شخص مثله في الأفلام».
في فيلمها «فايس روي هاوس»، تكشف غريندار عن مؤامرة بريطانية لتقسيم الهند بين الهندوس والمسلمين من أجل حماية مصالح بريطانيا بعد نهاية حكمها هناك. التقسيم يسفر عن صراعات دموية بين الهندوس والمسلمين، التي ما زالت مشتعلة حتى يومنا هذا. لكن في أفلامها الأخرى التي تدور أحداثها في بريطانيا، كل الآسيويين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، يواجهون التحديات الوجودية نفسها.
«خلافا للوضع في الهند والباكستان، هناك الكثير من الصداقة بين جميع الآسيويين بغض النظر عما إذا كانوا هندوساً أو مسلمين أو سيخا. الناس مختلفون وبعضهم يختلف في الشعور. إنها فكرة معقدة للغاية. نحن لا نعيش في عالم يفرض عليك أن تكون هندياً أو باكستانياً أو هذا أو ذك كل الوقت. يمكنك أن تتغير وتتحوّل وتتحرّك. فهويتنا تتطور وتتغير دوما».
وهذا فعلا ما نشاهده في أحداث «بلانيديد باي ذي لايت»، إذ أن جافيد يدرك أنه هو سيد القرار في بلورة هويته وليست عائلته الباكستانية المنطوية على نفسها أو المجتمع الانكليزي العنصري الرافض له.
سرفراز يقر أن ما عاشه من انقسام عرقي في الثمانينيات يشعره في المجتمع هذه الأيام. «نحن في زمن يعّرف الناس أنفسهم أو يتم تعريفهم بطريقة تفصلهم عن بعضهم، وتشير الى أن شخصا ما لا ينتمي إلى مكان ما بالقدر الذي ينتمي إليه شخص آخر. شعرت أن هذا ما كان يحدث في الثمانينيات. ومن المثير للاهتمام كان يحدث في المنزل أيضا، حيث كان والدي أيضا يخبرني بأنني لست بريطانيا كما ينبغي».
خلافا لسرفراز، والده كان مهاجرا من الجيل الأول، ولد وترعرع في باكستان. أما سرفراز الطفل فلم يستطع أن يشعر بانتمائه لباكستان، التي لا يحمل أي ذكريات منها ولم حتى يزرها، رغم إصرار والده عن كونه باكستانيا وحث العنصريين البيض له بالرجوع اليها. لكن مع الزمن تعزز شعوره بالهوية البريطانية.
«هذا أمر صعب»، يتنهد سرفراز، البالغ 48 عاما. «أنت تشعر بذلك أكثر كلما ازدادت خبرتك في الحياة. وبالتالي أنا اليوم أشعر بذلك لأن لدي ولدين وأنا متزوج ولدي جذور وثقافة، بالاضافة إلى أنني قمت بالكثير في الـ 25 سنة الماضية وألفت كتبا وأضفت الى قصة ما يعنيه أن تكون بريطانيا. لذا أن هذا الفيلم جزء من تلك المسيرة، لأن الناس الذين يشاهدون الفيلم الآن سيعلمون أن هناك طرقا متعددة ليكونوا بريطانيين عوضا عن هيو غرانت».
أغاني سبرينغستين الأمريكي الكاثوليكي أثارت شعور الانتماء والأمل والتفائل وثقة النفس في منصور المسلم البريطاني، وذلك يثبت أن الموسيقى، أو أي فن آخر، جسر يربط بين الناس بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية، وسلاح لمقاومة الفقر واليأس والكراهية والعنصرية. فهل سيتحول فيلم قصة حياة منصور مصدر إلهام لشباب من ديانات وأعراق أخرى؟
المصدر: القدس العربي