كيف تنسج العاطفة الدراما المعقدة؟
هيفاء هبة
لو كانت سفينة الـ«Titanic» قد وصلت إلى البر بسلام، لانتهى حبهما العابر، ولم يكن أحد ليسمع بروز وجاك إلى الأبد!
العاطفة في السينما أداة مهمة لا تُستخدم فقط لصنع القصص التجارية والعفوية، بل إنها تكون مراتٍ مِفصلًا أساسيًا في تركيبة أكثر الأعمال تعقيدًا وفلسفة.
ولتوضيح «البعد الوجداني» بين الشخصيات يتم توظيف الموسيقى، والإضاءة، وزوايا الكاميرا، والرمزيات البصرية، والأداء التمثيلي، والحوارات. لكن أفضل وسيلة هي أن تكون المشاعر حاضرةً من كتابة الشخصيات حتى نواة العمل، وأن تتجذر بشكلٍ أعمق من مجرد مشاهد حميمية أو جمل شاعرية؛ لتكون عنصرًا في خريطة «البناء الدرامي» حتى تصبح بوصلة الأبطال والمحرك الدفين لأفعالهم دون أن يدركوا، مما يؤثر في القصة الأساسية وعالمها الواسع.
من الأمثلة الواضحة التي استخدمت ذلك في حبكتها هو مسلسل «breaking bad» الذي حول شخصية “جين” التي كانت حبيبة «جيسي» من شخصية ثانوية فقط إلى شيءٍ أكبر. فبعد وفاتها المرتبطة بوالتر تسبب والدها – الملاح – المكلوم، في اصطدام طائرتين في سماء ألباكركي كتلميح إلهي عن تأثير تصرفات الشخصيات الخاصة والدمار الذي سيشمل عالمهم بأكمله؛ لتتحول من قصة حبٍ عاطفية إلى حجر أساسي أدى سقوطه إلى العديد من التغيرات المتسلسلة بين الأبطال وبقية الأحداث.

«الحب يجلب السلام، ولكنه يتجلى في الشدائد»
فدائمًا ما نجد أن أبرز الأفلام الشاعرية، لم تكن ثيمتها الأساسية بالضرورة “العاطفة”.
خذ، مثلًا، فيلم «The Curious Case of Benjamin Button»، الذي يدور حول معاناة طفل وُلد بجسد عجوز. وفي طفولته، قبل أن يدرك حتى صراعه المعكوس مع الزمن، تظهر حبيبته بشعرها الأحمر، تكبر هي بشكلٍ طبيعي بينما يصغر هو كلما مرّ الوقت، حتى تلتقي أعمارهما في المنتصف، في الثلاثين، وللمرة الأولى والأخيرة يصبحان في نفس العمر، لتصبح واحدة من أكثر اللحظات شاعريةً وعمقًا؛ لأنها استندت إلى ما هو أكبر من الشعور والكلام: فلسفة عميقة، وعقدة كبيرة، وبناء درامي محبوك.

«لا تعلمك الحياة درسًا إلا من خلال من تحب»
في فيلم «Patch Adams»، المأخوذ عن قصة حقيقية للطبيب «هانتر آدامز»، الذي آمن بأن اللطف والدعابة هما العلاج الحقيقي لمعاناة البشر، لم تكن شخصية «كاثرين» حبيبته جزءًا من القصة الأصلية، بل اختُرعت لتخدم الحبكة الدرامية وتُضيف اختبارًا عاطفيًا لفلسفة البطل.
في مشاهد لطيفة ومُتقطعة، حاول هانتر مرارًا أن يقرأ قصيدة لبابلو نيرودا على محبوبته، وكان يفشل كل مرة. ولكن بعد أن فقدها في حادث مأساوي – بسبب ثقته الزائدة في شخصٍ غريب – اضطر أن يكمل القصيدة على تابوتها:
«أحبك بهذه الطريقة لأنني لا أعرف طريقة أخرى للحب. سوى هذه، التي لا يكون فيها أنا أو أنت،
لدرجة أن يدك على صدري هي يدي،
ولدرجة حين تغلقين عينيك، أغفو أنا».

وبما أن المشاعر المصاحبة للحب أشبه بحريقٍ مشتعل، علينا أن نشم دخانه أولًا قبل أن نراه، وعلى أفعال الشخصيات ألا تكون عشوائية وأن نتحكم في عقلها الباطني الذي يركّبه الكاتب بنفسه فكرةً فكرةً، قبل أن يُعلن الحب بالكلام الصريح، حتى تصبح الشخصيات بشريةً وقابلةً للتصديق أكثر. ولكي يقع المشاهد في فخ القصة، علينا أن نبنيه بإحكام.
في فيلم «The Great Gatsby»، الذي رسم عالمًا غامضًا، وخياليًا، وملونًا، لا يُكشف الستار عنه إلا من أجل الحب الذي نجح وحده في الدخول إلى عقل الشخصية الرئيسية ومشاعرها. فبعد صنع كاركتر مركّب مثل العظيم غاتسبي، لا بدَّ أن يكون ثمن الوصول إلى داهليزه باهظًا، وهل يوجد أغلى من الحب؟
الفيلم يتناول الحلم الأميركي، والثراء الفاحش، والحفلات الليلية الصاخبة، لكنه في جوهره يدور حول رغبة غاتسبي الغامض في عودة حبيبته القديمة، حتى لو ليومٍ واحد فقط. هذه الرغبة الرومانسية تُحرّك الأحداث وتُسقِط دومينو فوق عالمه البهيّ وتاريخه المليء بالمغامرات والحكايات.

«العقبات في العلاقات مثل البائع الذي يعض على القطعة النقدية ليتأكد من جودتها»
في عام 1920، ظهر أول فيلم رومانسي صامت بعنوان «Way Down East». لا حوارات، لا تعبيرات صوتية ولم تكن الموسيقى متوفرة في الفيلم المصور، حيث كانت الموسيقى الخلفية للفيلم تُعزف عزفًا حيًا أثناء عرض الفيلم. ولكن دون الأوكسترا الموجود في السينما، لم يكن إلا عبارة صور صامتة تعبّر عن أحاسيس المحبين، ومع ذلك، سبّب الفيلم صدمة للمجتمع بسبب فكرته الجريئة ونهايته الشاعرية.
الفيلم يحكي قصة «آنا مور»، الفتاة الفقيرة التي استُغلت من رجل ثري، فحملت منه ثم خسرت رضيعها وطُردت من منزل أقاربها، وفُضحت حتى وجدت مأوى في الريف، ووقعت بحب صادق مع “ديفيد”. لكن ماضيها يلاحقها، وتقرر الانتحار بالقفز في نهر متجمّد.
رغم القضايا الكبيرة التي طُرحت، فإن مشهد إنقاذ ديفيد لها، كان كفيلًا بأن يجعل الجمهور يغفر، ويتعاطف، وينسى الجُرأة حينها.

«الرومانسية في أفلام الحب المخلدة ليست إلا طبقًا جانبيًا… هناك دومًا وجبة أدسم!»
إذا نظرنا إلى فيلم «Titanic»، نجد أن المشاهدين ينقسمون إلى: قسم يتابعه من أجل الرومانسية، وقسم موجود من أجل الكارثة التاريخية.
قصة الحب بين روز وجاك، كانت مقنعةً بشدة، ورغم أنها لم تدم أكثر من أربع ليالٍ فقد كانت “مسمارًا مهمًا” في البناء الدرامي، وكأن الجبل لم يصطدم بالسفينة إلا ليثبت حقيقة مشاعرهما الجارفة.
وأصبحنا دون إدراك نرجو نجاة الحبيبين على حساب جميع الركاب، بل إن مشهد الأم الأيرلندية التي تضع أطفالها في السرير وهي تعلم أنهم سيموتون، لم يهزّنا كما فعل مشهد روز وهي تصرخ بحثًا عن جاك بين الجثث.

تفاعلات الشخصيات مع بعضها هي ما تحدد قوة العلاقة وصدقها، ولن يستطيع المشاهد تصديق ذلك بالحوارات المباشرة مهما بدت حنونة.
في لقائهما الأول، يقول جاك لروز – التي تفكر بالانتحار -: “إن قفزتِ… فسأقفز”. كمزحةٍ حتى يحيدها عن قرارها.
وبعد أن اصطدمت السفينة بالجبل الجليدي، ووُضعت النساء في قوارب النجاة «قفزت» روز من القارب لتعود إليه، وفاءً لوعدٍ لم ينطقا به!
«تتسلل الأفكار المعقدة من خلال المشاعر البسيطة»
فإن نزعنا العاطفة من الأعمال ذات البعد الفلسفي العميق، فلن تصبح سوى أفلام غريبة وجافة. نموذج فيلم يتحدث عن السطوة التي قد تصل لها التقنية لدرجة أنها ستستطيع أن تُقنعك بمشاعرها غير الموجودة، وتتلاعب بك حتى تكاد أن تلمسها!
لا، هذا ليس فيلمًا مرعبًا، بل هذا فيلم رومانسي Her، أو فيلم يشرح قسوة مرض قد يصيب أي إنسان بشدةٍ لدرجة أن يُنسيه كل الحياة التي عاشها، مضطرًا إياه أن يعتمد اعتمادًا كليًا على تذكر حياته من خلال الأشخاص الذين حوله، هذا ليس فيلمًا تراجيديًا، بل أشهر فيلم عاطفي «The Notebook».
فيلم آخر يتحدث عن طفلةٍ شهدت زورًا مما تسبب في دخول شخصٍ السجن، وتحكي لنا كمسنةٍ خرِفة كيف أكلها الذنب عبر السنين.. يبدو عملًا قاسيًا، ولكن «atonement» من أعذب قصص المحبين.
العاطفة من الأدوات التي يمكن مزجها مع أي ثيمةٍ أخرى، فتنتج لنا تركيبةً بديعة، ليست زينةً ترفيهية وكلامًا مبهرجًا فقط، بل هي العمود الفقري الخفي لأي عملٍ فني ناجح. حتى في الأعمال التي تبدو فلسفية أو ملحمية، تظل المشاعر هي الجرعة السرية التي تجعل الأفكار المجردة قابلة للمس، والقصص البعيدة واقعيًا وثقافيًا.. قريبةً من القلب.
النصوص العظيمة لا تَصنع شخصياتٍ ثم تبحث لها عن مشاعر، بل تخلق كائنات نابضة بالعواطف أولًا، ثم تتركها تُحرِّك الأحداث كدمى متصلة بخيوط مشاعرها. وهنا يكمن الفرق بين العمل الذي يُشاهَد، والعمل الذي يُعاش.
