د. محمد البشير
مدينة جوثام Gotham ليست كأي مدينة، فهي أيقونة المخيال، متى ما حضرت؛ حضرت الفنتازيا، والخارق للطبيعة، وصراع الخير والشر، وما ذلك إلا لأنها تحضر ليلًا، وتحكي الشوارع الخلفية لأي مدينة، وما على المشاهد للسينما والدراما أو قارئ الكوميكس من قبل، ما على هؤلاء إلا أن يسقطوا هذه المدينة على ما يشاؤون من مدن يعرفونها.
هذه المدينة خارج الكوكب بقدر ما هي داخله، فهي لها حدود لمن وضعها في جغرافيا هذه الأرض، وخارج الكون بكل ما تكتنفه من لا معقول، ويشفع لها أنها من صُنع الكوميكس، والخيال العلمي، والأبطال الخارقين، وهذا ما يجعل كل فيلم يجعل من جوثام ساحة له؛ محل ترقب الجماهير وعُشاق هذا الكون من محبي هذا الجنس الفيلمي.
فماذا حدث عندما استل تود فيليبس الجوكر، وانفرد به دون الرجل الوطواط؟! هل سيغيب الصراع، أم أن شخصية الجوكر منحت الرجل الوطواط إجازة مدفوعة الأجر؛ ليرتاح من عناء مطاردته، وتحميل نفسه مسؤولية الحفاظ على جوثام؟ فجوثام في نسخة الجوكر الجديد آمنة إلى حد ما، ولا حاجة لرجل يقفز الجدران، ويطير في السماء.
هي أسئلة مشروعة، ونحاول في هذا المقال إعادة المشاهد لاستشعار ما سبق، بوصفه المتابع لما يحدث في جوثام، والمندهش كل مرة في فلسفة الصراع ما بين الخصمين اللدودين، والمتقبل – جدلًا – لغياب الرجل الوطواط بعد بروز الجوكر بفضل أداء هيث ليدجر في النسخة التي صنعها كرستوفر نولان عام 2008 باسم “فارس الظلام”، بعد أن تحرر نولان من شخصيات الكوميكس؛ ليصنع شخصيات بمواصفات جديدة أكثر عمقًا، ومساءلة لكثير من الأخلاقيات، والصعود بشخصية الجوكر لتكون معادلًا موضوعيًا وأخلاقيًا لما يتم طرحه من خلال الرجل الوطواط. ولا شك أن نسخة الجوكر تلك ظلت في ذاكرة المشاهدين، وأكسبت ليدجر جائزة الأوسكار عن أفضل دور مساعد دون أن يتسلمها، فقد توفي بعد أدائه لهذا الدور الخالد، وبقي في ذاكرة جمهوره، وليكتسب الجوكر مكانته، فما عادت تلك الشخصية بعد ليدجر كما كانت من قبل.
مغامرة فيليبس
ما قام به تود فيليبس عام 2019 من الاحتفاء بالجوكر دون سواه كان مغامرة بالغة الخطورة، فماذا يعني الجوكر دون الرجل الوطواط؟ لو سألت كل مشاهدي النسخ السابقة في استفتاء لربما كان الجواب بالأغلبية: لا قيمة للجوكر في فيلم يغيب فيه الرجل الوطواط.
النتائج دائمًا هي الفيصل، فما أحدثه ليدجر بفوزه بطلًا مساعدًا، ضاعفه خواكين فينيكس هذه المرة، وليثبت أن الجوكر قادر على استلال جائزة الأوسكار لأفضل ممثل بدور رئيس عام 2020، ولتقفز بفينيكس ضمن قائمة الفنانين المتميزين أداءً، وهذا لم يكن لولا هذه المغامرة التي جعلت من (جوثام) أقرب إلى الواقعية، وأخرجتها من دائرة الخيال، إلى سحر الحقيقة، فلا رجال يطيرون، ولا يوجد ما هو خارج المألوف، وهذا ما جعل الجوكر أكثر قربًا للمشاهدين، بل ولعب في نسبة الكراهية لأكثر الأشرار بغضًا في كل فيلم. فبعد أن كان الجمهور يهلل فرحًا وسرورًا في اللحظة التي ينتصر فيها الخير بسقوط الجوكر، وتغلب الرجل الوطواط عليه؛ انقلب الكره تعاطفًا جرّاء ما قدمه فيليبس من مسببات ساقت الجوكر إلى أن يكون في تلك الحالة التي ساقته إلى ما هو عليه.
المجرم اللّطيف
احترت في وصف الجوكر في مراحله الأخيرة، واللُّطف أقرب الأوصاف إليه، فآرثر فليك لم يقتل من كانوا في الباص من أجل القتل؛ بل لأنهم يستحقونه جرّاء تنمرهم. ولم يقتل آرثر فليك أو الجوكر المحاور التلفزيوني موري فرانكلين الذي قام بدوره روبرتو دي نيرو بدم بارد دون سبب، بل بعد أن استفزه بالقدر الكافي، ليترك الرصاصة في جبينه، ويلحقها بأخرى، ويتجه راقصًا نحو الكاميرا، ليجعل هذا المشهد محفورًا في ذاكرة من شهد الحادثة عبر التلفاز في الفيلم، ومن شاهده فيلمًا سينمائيًا، وخاصة حين أعقبه بسيره راقصًا على الدرج، مدخنًا لسيجارته، وفارًا من رجلي الشرطة؛ لنرى تعاطف الناس معه أثناء فراره بارتداء قناع الجوكر، ولتصبح جوثام مساندة للجوكر في غياب الرجل الوطوط، ولتقف مع الجوكر ضد رجال الأمن، ولتقوم بضرب رجلي الشرطة اللذين يطاردانه، فالناس لا تقبل أن يُعاقب هذا المجرم اللطيف على خلاف ما يكنونه له من قبل، فبعد معرفة آرثر عن قرب؛ خير للرجل الوطوط أن يغيب، لأنه لو حضر، لوقفوا ضده.
الإرث العظيم
حقق فيلم الجوكر نتائج مذهلة على صعيد شباك التذاكر، وصار رقمًا صعبًا في الأفلام المصنفة للكبار، لما يحتويه من عُنف، ومع ذلك لم يقف التصنيف عائقًا دون إقبال الجماهير، وحصد الأرقام والإعجاب، والجدل حول هذه الشخصية المحيرة؛ بل وحصد الجوائز تلو الجوائز؛ لتكون النسخة التي نشاهدها هذا العام 2024 أمام تحدٍّ كبير، وخاصة بعد ما حققه من تجاوز المليار بميزانية لا تتجاوز الـ55 مليون دولار.
المعطيات تجعل هذه النسخة – نظريًا – قادرة على التفوق على ما سبق، فالميزانية المقدرة بمئتي مليون دولار، وقيل أكثر، والمخرج الذي حصد النجاح الأول، هو من أسند له هذا العمل، والبطل الذي حقق النجاح هو من يقوم بهذه البطولة، وهذا ما جعل تود فيليبس يزيد فرص النجاح باستقطاب ليدي جاجا في دور لي كوينزل، وهي من هي جماهيرية. فالرهان على جماهيريتها ربما ينجح متى ما كُتب له ذلك، فما الحل؟ المغامرة بجرأة ثانية بعد الأولى، والانحراف بالقصة نحو الموسيقية، ويا تصيب يا تخيب.
الرقصة الأخيرة
غامر تود فيليبس بزج آرثر صوب منحنى عاطفي بلقاء لي كوينزل أثناء مروره بجوقة في سجنه. ولعل فيليبس أراد اختبار الجانب النفسي بوجود الأنثى في حياة آرثر، وهذا جانب لطيف لمن يتأمله، فآرثر الذي عرفناه من قبل لم يعد كما هو بعد لقاء لي كوينزل. وهذا مسوغ مقبول لكل ما يمر به البطل، وله مهاد في النسخة الأولى برقصته على السلم، فلا بد من رقصة، ولكن هذه المرة صعودًا لا هبوطًا كما سبق.
هذا الصعود بالأغنيات كان محل امتعاض جمهور الفيلم الذي جاء من أجل الجوكر، لا غراميات آرثر! وهذا ما أطال الرقصة الأخيرة إن كنا نقيسها برقصة البجعة التي تؤديها قبل موتها. فالبجعة تغني أغنيتها قبل أن تموت، وهذا ما حدث لآرثر في أغنياته ورقصاته التي أداها قبل موته، واستحضاري للبجعة ورقصتها لم تكن من أجل آرثر، بل من أجل فيليبس الذي راهن بهذه الرقصة، فهل ينجح في تحقيق ما حصده من قبل، أم أنها تكون رقصته الأخيرة في شخصية الجوكر؟!
شباك التذاكر
الرهان دومًا على شباك التذاكر، والمعطيات الأولية تشير إلى أن الجزء الثاني لم يحقق ما حققه الجزء الأول من قبل، وخاصة أن الميزانية ارتفعت، والأصل حصاد أضعاف ما حققه بلغة الأرقام. ولكن هذا ما لن يتحقق أمام حملات الامتعاض، مع أن الفضول قادر على استرداد ما تم صرفه، وكفيل بحضور من ترقب هذا الجزء، ومن لا يثق دون أن يشاهد.
أثبتت الجرأة التي يمتلكها تود فيليبس قدرته على تحقيق فوز واحد، فبمعادلة السينما لا ضامن لأي مغامرة جديدة سوى التجربة، والتجربة الأولى أثبتت نجاحها، ولكن روح تود فيليبس المقامرة ساقته للرهان برقم أكبر بعد فوزه الأول، وهذا ما يجعل دولاب الحظ دائرًا يفكر، فهل سيقف على رقم أكبر هذه المرة أيضًا؟ لا أظن، وربَّما الأيام تخبئ المفاجآت.
إخفاء القرش الأبيض
لم يُلقِ تود فليبس كل أوراقه، فمن يتأمل فيما طرحه، سيجد ما يشفع له، فتجربة المحاكمة بعد القبض على الجوكر، مساحة لمن ينظر إلى مسببات مآلات الجوكر، وما يعانيه من استجابة لبذور سابقة من تنمر أقرب الناس إليه مثل أمه، وانقلاب أعز أصدقائه مثل القزم بادلز، فضلًا عما سبق في الجزء الأول، وتخلي لي كوينزل عنه، فهي تحب الجوكر لا آرثر. وهكذا كل الناس المتعاطفون معه، وآرثر ليس كما يظنه الناس. ففي هذه النسخة يخرج اللطيف الذي في داخله؛ ليلقي بنفسه من السيارة بعد تعاطف الناس معه إلى حد التخريب، وليقوم بأخلاق الواجب التي كان يصف بها داميان كوكس ومايكل ليفين الرجل الوطواط في كتاب السينما والفلسفة، ولينعطف بالجوكر إلى مساحة جديدة تبرر تعاطف الجمهور معه، فهل وفّق تود فيليبس في ذلك؟
الأيام ستكون فيصلًا على صعيدي المشاهدة والقراءات، ولعل الزمن يُنصف الجانب الموضوعي للفيلم، بعيدًا عن العبث في نسخة جوثام التي تقبلها الجمهور للمرة الأولى، ولم يتقبلها في المرة الثانية، وعندها إما أن يصف تود فيليبس بالجريء في طرح، أو بالعابث بإرث جوثام؟ الجميل أن تود فيليبس احتفظ بقرش أبيض لنسخة مقبلة عندما جعل بذرة آرثر في رحم لي كوينزل، ومن يدري ما الذي يخبئه لنا في مقبل الأعوام.