د. محمد البشير
على كل فنان الاستمتاع بفنه، والمراهنة على ما يُقدمه، ومعرفة أن خيار الفن يفترض الاحتمالات حتمًا، وأن مرحلة «الاستحقاق» والحصاد المفترضة، ربما تأتي أو لا تأتي، فرهان نجيب محفوظ مثلًا، لم يكن رابحًا على الدوام، فاستمتاعه بالسينما التي دخلها في سن الخامسة كما يروي أحمد فضل شبلول في كتابه «نجيب محفوظ بلا معطف»، ومشاهدة نجيب محفوظ لفيلم شارلي عام 1916م خمس مرات، وخروجه جريًا على «خان جعفر» لاعتقاده بأن الممثلين وراء الشاشة، مُنيت بخيبة أمل عندما لم يجد أحدًا في الخلف! ولكنه عاد، ولم يظل خلف «خان جعفر» منتظرًا دون حراك.
ليس كل ما تتصوره يقع حتمًا بالضرورة، فربما تأتي النتيجة مغايرة، ولكنها في اتجاه آخر، في اتجاه لخيال أوسع؛ فهذه المساحة من الخيال أسهمت في صنع اسم نجيب محفوظ، وقدمته روائيًّا، وسيناريستًا، فكتب وشارك واستلهم آخرون من قصصه ورواياته، فله أول قصة سينمائية «بين السماء والأرض»، وتحولت فيلمًا عام 1959م من قبل المخرج صلاح أبو سيف، بعد دخوله إلى عالم كتابة السيناريو، ومعاونة السيد بدير الذي عُرف كاتبًا أكثر منه مخرجًا وممثلًا. ولأن هذا النص مكتوب بإلهام السينما؛ وبصناعة شخصيات، وحبس شخوصه الذين كان يبحث عنهم؛ كان له نصيب وافر، فأحداثه في مكان واحد، حين اختار نجيب محفوظ «المصعد» مكانًا لمسرح الأحداث، وعلى هذا المسرح صُنع الاسم «بين السما والأرض»، والممثلة شخصية من حبيسات المصعد؛ لتقوم بها الفنانة «هند رستم» في دور «ناهد شكري»، ولأن مثل هذه النصوص جاذبة للإنتاج؛ كانت محل تفكير لإعادة صناعته من جديد؛ فبُعد العهد بالفيلم يُنسي ما جرى صناعته من قبل، وما بين عامي 1959-2021 أعمار وأجيال وألوان وأشكال؛ فقد جرت إعادة صناعة القصة بسيناريو وحوار إسلام حافظ لتكون مسلسلًا رمضانيًّا من «15» حلقة، عُرض على قناة MBC، ومنصة «شاهد».
الأوراق لا تفَسَد، والأفكار لا تبُور، وما كان صالحًا للعمل سيأتي دوره ولو بعد حين، وحتى ما جرى إنتاجه؛ من الممكن أن يُعاد تنفيذه برؤية أخرى، وبروح جديدة؛ فلا تأسَ على ما لديك من ورق في الدرج، فحتمًا سيأتي يوم لتكون شخصيات بحياة في دار السينما، وما عليك سوى تسويقها بطريقة جاذبة، فليس كل من أمامك يقتنع بعظيم أفكارك!
هاتفتني كاتبة عرّفت بنفسها، وذكرت أن لديها قصة فيلم عظيم، وبالطبع لم أسألها، فقد كنت مصغيًا كعادتي، واسترسلت بالحديث عن النتائج المبهرة التي يمكن أن تحدث بعد خروج هذا الفيلم، وتحقير ما يُعرض ويُنتج حاليًّا، وبالاستمرار بالحديث «الطويل»؛ لم تذكر فكرة «الفيلم العظيم»، ووصلت إلى ما تريده، بحديثها عن توقيع العقد، واستلام حقوقها المادية قبل أن تقول ما هو «الفيلم العظيم»!
سألتُ عن الورق، فأخبرتني بأنها لا تمتلك سيناريو؛ بل تملك قصة فيلم عظيم لا أكثر، وعلى من يريد هذه القصة أن يبحث عن من يكتب السيناريو! أرشدتها إلى من تتواصل معه، وعن بوابات التقديم على مثل ذلك، وحضضتُها على التواصل مع مَن يكمُل المشروع للوصول إلى الخطوة التي يمكن بها أن يتحقق حلم «الفيلم العظيم».
للجميع الحق بالتفكير بأنه يملك قصة فيلم عظيم، وأنا على يقين أن لدينا أكثر من 8 مليارات فكرة عظيمة بعدد سكان الأرض، وأكثر من ذلك بكثير، فكل واحد -أو واحدة- يملك قصة وأكثر، ويراها عظيمة، وتستحق أن تكون على الشاشة بدلًا مما يشاهده، وعلى المهتمين أن يأخذوا قصته، ويحولونها فيلمًا عظيمًا يستحق المشاهدة، دون أن يبذل أو يسوّق أو يقنع أحدًا بفكرة لم تخرج من رأسه بعد، ودون أن يقدمها ورقًا يُقرأ، أو على أقل تقدير بعرض شفهي مقنع، ودون أن يستغل «مصعد» نجيب محفوظ في طرح فكرته، فحديث المصعد Elevator Pitch الوسيلة التي يتدرب عليها مقدمو الأعمال لشركات الإنتاج؛ بل هي الوسيلة لإقناع أي أحد: «مستثمر، موظف موارد بشرية، مخرج، منتج، صديق…» بفكرة تدور في رأسك، وعرض كل ما لديك في مدة زمنية قصيرة، وهي مدة الانتقال من دور لآخر بمصعد، أي في مدة لا تتجاوز الدقيقة، فأنت في رهان مع الوقت في 60 ثانية؛ لتقنع من أمامك بفكرة فيلم عظيم يستحق المشاهدة، وهذا يتطلب مهارة عالية للإقناع، واستمالة من أمامك لقبول فكرتك، والاهتمام بها. وكُتّاب السيناريو، يعلمون أهمية اللوغ لاين «Log line» سطر مدخل الفيلم، وملخص الفيلم «Synopsis»، في كلمات وأسطر محدودة، فهي من ستجعل المقابل يتحمس لفكرتك، ويطلب دراستها، وحقيقة ما لديك من فيلم عظيم، والعمل جديًّا لاستكمال المسيرة التي تبدأ من تلك الخطوة، ولا تنتهي بها.
عليك من هذه اللحظة أن تبدأ بإخراج فكرتك من رأسك، وتقديمها على ورق، فلا أحد سواك قادر على إخراج أوراقك من درجها، وعليك التوقف عن العويل على أوراق حبيسة الأدراج، والبدء بفتح أدراج رأسك، وإخراج ما به، والعمل بجد على تسويق ما لديك، فمن لم يستطع اليوم في ظل نوافذ استقبال النصوص والأفكار؛ فمتى سيخرجها! فهذه مسابقة ضوء لدعم الأفلام من هيئة الأفلام، ومسابقة مهرجان البحر الأحمر الدولي، ومسابقة مهرجان أفلام السعودية، وغيرها الكثير مما يطرح سنويًّا لاستقبال النصوص والأفكار العظيمة، فأخرج ما لديك، ولا تردد «أَضاعُوني وَأَيَّ فَتًى أَضاعُوا»، فلا أحد سواك من أضاع نفسه، واطمئِن لن يفتقدك أحدٌ ما دامت أوراقك في درجك، وأفكارك العظيمة حبيسة رأسك، وعجلة الأفلام تدور بك أو من دونك، وظلَّ مرددًا : «سَيَذكُرُني قَومي إِذا جَدَّ جِدُّهُم وَفي اللَيلَةِ الظَلماءِ يُفتَقَدُ البَدرُ».
فالشعر وحده لا يصنع نصًّا، ولا يقدم فكرةً ما دامت لم تُكتب بعد، وما دُمتَ محتاجًا إلى من يكتب لك، ولم تتقدم بعد بخطوة لاحقة، فالأفلام محتاجة إلى جهد جمعي لا فردي، وما دمت تعيش في برجك وحدك، ستظل -طول عمرك- منتقصًا مما يُقدَّم؛ دون أن تُقدِّم.