نور سعد
«البيضة والحجر» فيلم أُنتج في عام 1990، من بطولة الفنّان القدير أحمد زكي، وكتابة محمود أبو زيد، وإخراج علي عبدالخالق. ويُعد هذا الفيلم من أكثر الأفلام التي أثارت الجدل في السينما العربية؛ وذلك لجرأة طرحه وعمق معناه في مناقشته لقضايا اجتماعية بنهج فلسفيّ جعل المشاهد لا يرمش.
«أنا بحارب الغلاء بالاستغناء، الحاجة اللي بتغلى على إمكانياتي بلغيها من لستة احتياجاتي وأشوف لها بديل». هذه الجملة التي ترسّخت في أذهاننا من فيلم «البيضة والحجر».
وفي هذه المقالة أذكّركم بقوة العقل والتفكّر؛ حتى تخوضوا الرحلة التي أخوضها مرارًا وتكرارًا كلّما شاهدته، وهي رحلة بين العقل والجهل، وبين المقاومة والاستسلام؛ لمعرفة من هو المُخلّص ومن هو الدجّال.
ملاحظة: قد تحتوي المقالة على حرق لبعض الأحداث المهمة من الفيلم.
يتحدث الفيلم عن مُدرس الفلسفة «مستطاع»، الذي لم يكن مُدرّسًا لها وحسب، بل كان يجعلها منهجًا في حياته وكأنه سقراط زمانه.
تبدأ الرحلة من الغرفة القابعة في سطح المبنى، حيث كان يسكن فيها الدجّال «سباخ» ويتخذ منها معملًا لسحره، والذي يستدعي بالضرورة تواصلًا مع الجن، وكان كعادة السحرة يخدع عقول سُكان العمارة؛ طمعًا في المال. وذات يوم اختفى فجأة! ولا يعلم أحد أين ذهب، فأصبحت هذه الغرفة لعنة؛ ولذلك قرر السُكان إغلاقها خوفًا من الأرواح الشريرة التي بها.
لكن في يوم من الأيام قرر صاحب العمارة أن يفتح الغرفة برغم رفض السُكان، وبعدها بفترة انتقل «مستطاع» من شقته إلى غرفة الدجّال سباخ، وذلك لمبدئه «محاربة الغلاء بالاستغناء»، والذي بدا جاهلًا بشأن هذه الشقة وأنها ستغيّر حياته بشكل جذريّ!
وحينما كان يُعلّم طلابه سياسته في الحياة «محاربة الغلاء بالاستغناء»، كما ذكرنا سابقًا، قرر طلابه الإضراب والانقلاب على بائع كافتيريا المدرسة، ممّا جعل من الأخير اللجوء إلى الشؤون القانونية، وانتهى الأمر باتّهام «مستطاع» اتّهامات سياسية، ومن ثم تحويله للتحقيق حتى تمّ إيقافه من مهنة التدريس.
نقطة التحول
بعد فقدانه لعمله كمدرّس، يُطرق عليه الباب من قبل امرأة كبيرة بالسن تطلب منه فك العمل «السحر» لابنها المتزوج، ولكنّه يخبرها بأنّ هذه ليست مهنته وأنّ ابنها يحتاج لطبيب نفسي، فلم تقتنع المرأة المسنة واستمرت محاولةً إقناعه بجميع الطرق، فوافق بدوره.
وبدأ الأشخاص الآخرون مرة تلوَ الأخرى يأتون إليه، ويستغلّ هو جهلهم حتى أصبح مكفولًا في شربه وطعامه، مع استمراره في كسب المال منهم.
«الدجل هو لعب الذكي بآمال ورغبات الناس، ويل للعالم إذا انحرف المتعلمون وتبهيظ المثقفون.. اللي عرفني بأسس الميتافيزيقيا وقواعد المنطق الرياضي وأساليب البحث عن الحقيقة قادر يعرفني بأساليب الدجل وفن الشعوذة…» وهكذا بدأت اللعبة مع «مستطاع».
ولكن السؤال هنا.. ما الذي جعل «مستطاع» مستطيعًا استغلال هؤلاء الأشخاص؟ ما سهّل له ذلك هو ذكاؤه وثقافته ومعرفته للجوانب النفسية والفلسفية لهذه المشكلات، بالإضافة إلى منطقه وإيمانهم في الآن ذاته وليس السحر، فكان ناجحًا في ذلك إذ ما برحوا يرونه مولاهم، وأنه المُخلّص ذو الكرامات، ولم يقف عند هذا الحد، بل أصبح مُنجّمًا أيضًا وعالمَ فلك. وتطوّر الأمر حتى حظي بمساعدين، وانتقل من غرفته الصغيرة إلى ڤيلا لم يكن ليحلم بها لو ما زال مُدرّسًا.
استطاع «مستطاع» أن يصبح ثريًا يعيش في أحضان حياة مرفّهة ومريحة، وأصبح يلجأ إليه الأغنياء بحثًا عن الأمل، والفقراء تمسكًا بالأمل.
لكنه في نهاية المطاف يُقبض عليه من قبل الشرطة للتحقيق في شأنه، فيعترف للمحقق بكونه دجالًا يلعب بعقول الجهلاء، وإذ به ينجو من السجن!.. لماذا يا تُرى “مستطاع” المُخلّص خرج من السجن؟.. و«مستطاع» المُدرس أوشك أن ينتهي به المطاف إلى السجن؟
كان كلٌ من المخرج علي عبدالخالق والكاتب محمود أبو زيد يوجّهون فلسفتهم لنا على وجه الخصوص، واستطاعوا مواجهة الأشخاص بحد ذاتهم وليس الدجّالون والمنجّمون، وناقشوا قضايا كثيرة على رأسها أن الإنسان يغوص في وحل جهله، ويبحث عمّن يُخلّصه من مشاكله، ولكنه لا يعلم أن الواجب عليه تخليص ذاته من هذا المستنقع.
ومما جعلني أتعلق أكثر بالفيلم وأركز في كل دقيقة، هو ذكاء الكاتب في اختيار الحوارات العميقة ذات المغزى الواضح، وكتابة أبعاد شخصية «مستطاع» وتحولاته في رحلة الفيلم من شخص ذي مبادئ وقيم عالية إلى شخص مُحتال ومخادع.
ولكنه لم يكن دجالًا، ولا هو بمستغل لجهل الناس، بل هم من صنعوا منه مستغلًا لخوفهم ممّن حولهم في الحاضر والمستقبل، والذي تشكّلت منه هواجسهم غير الموجودة من الأساس! وفي الآن ذاته لا أنكر أنه استغل جهلهم وعزَّز من زيادة فساد المجتمع وجهله.