عصام زكريا
خُطوة جديدة تُحققها السينما السعودية مع بدء عرض فيلم «راس براس» على منصة «نتفليكس».م ن ناحية، هو أول فيلم سعودي تنتجه المنصة العالمية بالتعاون مع شركة «سرب» التي أسسها منتج ومؤلف الفيلم عبد العزيز المزيني».
وهي خطوة تتوج التعاون بين «نتفليكس» وفريق عمل الفيلم، بعد نجاح فيلم التحريك «مسامير» الذي اشترته المنصة في العام الماضي، ومسلسل التحريك «محافظة مسامير»، وكلاهما من إنتاج مالك نجر، مخرج «راس براس»، وشارك في تمثيلهما عبد العزيز الشهري، بطل «راس براس». وكلٌّ من «مسامير» المسلسل والفيلم حقَّقا مشاهدات جيدة وشعبية كبيرة لصناعهما.
عبد العزيز الشهري عُرِف، أوَّل ما عُرِف، من خلال شخصية بندر، التي كان يؤديها بصوته فقط، في «مسامير»، ثم من خلال فيلم «سطار» الذي حقق أعلى إيرادات لفيلم سعودي، ودشَّن ما يُمكن أن نطلق عليه «سينما شعبية» سعودية.
مثل «سطار» يستهدف «راس براس» الجمهور العام من محبي السينما الكوميدية الخفيفة، ويمكن القول إنه نجح في ذلك بدليل نسب المشاهدات المرتفعة التي يحققها، وإن كان الفيلمان يختلفان في نوع الكوميديا ومذاقها وأسلوبهما الفني بشكل عام.
«راس براس» هو امتداد واضح لعالم «مسامير»، فهو يرسم شخصياته ويحركها كما لو كانت رسومًا، وهو يصنع عالمًا خياليًّا، موازيًا للواقع، لكنه ليس واقعيًّا، تحدُث فيه أغرب الأشياء وأكثرها «جروتسكية»، (حيث تبدو الشخصيات والأماكن والبيوت كما لو كانت انعكاسًا لمرآة مشوهة).
لدينا هنا مدير صيانة بشركة تأجير سيارات كبيرة اسمه فياض (عبد العزيز الشهري)، يقوم بسرقة محتويات سيارات الشركة، وبالشركة سائق طيب وفقير اسمه درويش (عادل رضوان) يحب فتاة ثرية اسمها لطيفة (أيدا القصي)، يحاول لفت انتباهها بارسال صورة لنفسه وقد وضع مسدسًا موجَّهًا إلى رأسه، وهو ما يُغضِب أباها الذي سيتبين لاحقًا أنه أكبر مجرم في المدينة.
أما ابن صاحب الشركة الذي يحمل الاسم الغريب زاروب (خالد عبد العزيز)، فهو يتحايل، بمساعدة مجرم محترف، لتهميش أبيه والاستيلاء على الشركة، فيعين مدير الصيانة الفاشل مديرًا تنفيذيًّا للشركة، ويطلُب منه إرسال سيارة لإحضار أبيه العائد من المطار.
ولكن هؤلاء هم الشخصيات العادية في العالم العادي، فالشخصيات الغريبة وعالمها الأكثر غرابة لم يأت بعد.
هناك مجرم عجوز محبوس لدى عصابة دولية كبيرة في روسيا لأنّه سرق منهم بيضة ذهبية لا تُقدَّر بثمن، يقررون الإفراج عنه بعد أن يئسوا منه، وابنه هو «ولد الديمن» سابق الذكر (محمد القس)، الرجل الأول في حي «بذيخة»، الذي أصبح مأوى للمجرمين وقطاع الطريق من كل نوع، ومنهم النصاب أبو غدرة (زياد العمري) الذي يوقع ضحاياه بإيهامهم أنه فتاة، وصانع المتفجرات المتوحش لقمان (هاشم موساوي)، وصاحب الفندق المشبوه الوحيد بالحي، ويؤدي دوره مالك نجر شخصيًّا، وغيرهم من عجائب الكائنات.
في أول أعماله بصفته مخرجًا يصيغ مصمم ومنتج الرسوم مالك نجر عالمًا فريدًا في صورته وشخصياته، خاصة عندما تنتقل الأحداث إلى «بذيخة»، ويساعده على ذلك السيناريو الهزلي الذي كتبه المزيني، المقتبس، ربما، من جو أفلام العصابات الكوميدية الأمريكية والبريطانية، ولكن بعيدًا عن الخطوط العامة للدراما، التي تعتمد على مفارقة لقاء العادي بالخارق للعادة، حيث يحدث خطأ ينتج عنه ذهاب صاحب شركة السيارات إلى «بذيخة» بدلًا من المجرم العجوز القادم من روسيا، بينما يذهب الثاني إلى مقر شركة السيارات، وتتفاقم الأمور عندما تفسد خطة تبادل الرؤوس، بسبب موت المجرم العجوز فجأة!
بعيدًا عن هذه الخطوط العامة يدخل «راس براس» في تفريعات سردية تعمل على تحريك الدراما باستمرار، ما يُعطي للفيلم إيقاعًا وتشويقًا، ويبدو للحظة أن الخطوط أفلتت من صناع العمل، قبل أن يقوموا بتجميعها في خاتمة تحفل بالمصادفات والافتعال، ولكنها من ناحية ثانية تبدو فوضى «طبيعية» لعالَم خيالي يفتقد للمنطق، وخاتمة عبثية لعالم عبثي.
من العناصر الجيدة في الفيلم التصوير والديكور والألوان، وهي تصنع معًا عالمًا سيرياليًّا ملائمًا لطبيعة الفيلم، خاصة عالم «بذيخة» الكابوسي، بألوانه الحمراء والصفراء، كأنما خرج للتو من هجوم نووي!
ويحمل «راس براس» نفسًا عصريًّا في تحرره من اللغة السينمائية التقليدية، حيث تتحرك الكاميرا بسرعة ومرونة، ويشارك المونتاج والمؤثرات البصرية والصوتية في السرد، كما لو كانوا تعليقًا صوتيًّا على الأحداث يوجه عين وأذن المشاهد، ولا يفوت صناع العمل أن يستخدموا فن التحريك في بعض المشاهد، ويحمل الفيلم بعض الإحالات إلى مشاهد وموسيقى أفلام وأعمال معروفة، مثل أفلام «الويسترن»، ومسلسل «مسامير»!
«راس براس» عمل كوميدي، هدفه الأساسي بث البهجة وإضحاك الجمهور، ولكن الضحك فيه يحمل مذاقًا سوداويًّا، لعالم يسوده العنف والجريمة بأشكالها، ضحك من النوع الذي يميل إليه جيل الشباب الحالي، الذي حوّل أفلام الزومبي والسفاحين إلى مادة للفكاهة. ورغم أن «الثيمة» أو الفكرة الرئيسة تحاكي بنية فيلم العصابات الغربي، لكن صناع العمل استفادوا من خبرتهم الطويلة في صنع نماذج وموضوعات وشخصيات محلية، من خلال مسلسل وفيلم «مسامير»، فجاءت شخصيات «راس براس» مزيجًا من أنماط أفلام العصابات المعتادة، والشخصيات المستلهمة من الواقع. كذلك جاءت الكوميديا مزيجًا من مواقف وشخصيات نمطية وأخرى محلية، ويحفل الفيلم ببعض تفاصيل الشخصيات والإحالات الكوميدية المحلية، بل وبعض «الإيفيهات» العصرية التي تعبر عن روح صناع الفيلم الشباب، الذين حولوا كثيرًا من حياتهم وتعبيراتهم ونكاتهم اليومية إلى «إيفيهات». ولكن هذه الكوميديا كانت تستحق أن تُختبر في دور العرض السينمائي قبل العرض على المنصة، وربما كانت دور العرض السينمائي تستحق فيلمًا شعبيًّا يعزز الثقة بين الجمهور وصناع الأفلام.
أخيرًا تجدر الإشارة إلى فريق الممثلين، المتميز أغلبه: عبد العزيز الشهري يجيد لعب شخصية الساذج كما يجيد لعب شخصية المحتال الصغير، وشخصيته في «راس براس» تجمع الاثنين معًا، ومحمد القس ممثل مسرحي وتليفزيوني مخضرم يجيد لعب الكوميديا كما يجيد لعب الأدوار الجادة، خاصة شخصية الشرير، كما يظهر في «راس براس»، إذ يثير الخوف والتوتر حتى وهو لا يفعل أو يقول شيئًا، أما المفاجأة فهي الممثل الجديد عادل رضوان الذي يلعب دور البريء الساذج، الذي يتحول بمرور الوقت إلى العنف، بإجادة لافتة، وتلعب أيدا القصي الدور النسائي الوحيد في الفيلم، فتنقذه من هيمنة التستسترون عليه، خاصة في الثلث الأخير، عندما تبدأ في الظهور ولعب دور حاسم في تحويل دفة الدراما.
«راس براس»، مرة أخرى، فيلم كوميدي شعبي لا يطمح إلى أكثر من التسلية والترفيه، مستهدفًا بالتحديد جمهور الشباب السعودي، ثم العربي، والعالمي. وهو لا يخلو من بعض المشكلات في الكتابة والتنفيذ، حيث تعاني بعض المقاطع ضعفَ كتابةٍ، أو عيوبَ تنفيذ. وعلى سبيل المثال مشهد المواجهة الأول بين فياض ودرويش من ناحية ورجال عصابة الديمن من الناحية الثانية، الذي ينتهي بإطلاق وابل من رصاص المسدسات والمدافع على درويش، باتجاه السيارة التي تقل زعيم المجرمين، فلا إطلاق النار باتجاه زعيمهم وارد، ولا نجاة درويش وعودته بحركته البطيئة المتعثرة سالمًا إلى السيارة بالشيء المنطقي. وفيما يرسم الفيلم دورًا فعّالًا لكل شخصية، وهو شيء يحمد عليه، لكنّ بقاء صاحب شركة السيارات مخطوفًا بلا دور أو حتى جملة يؤديها على مدار الفيلم عيب كان يجب تداركه.. من بين هنات أخرى قليلة.
مع ذلك فإن «راس براس» خطوة كبيرة جديدة تحققها السينما السعودية عبر منصة نتفليكس، سيتوقف على نجاحها خطوات محتملة جديدة.