يزيد بدر
رغم أنني أميل شخصيًا للسينما المستقلة، فإني أرى ضرورة أن يكون هناك سينما تجارية، بل العلاقة بين المقاربتين لهذا الفن لا تصير قوية إلا من خلال اكتمال المسارين؛ أي السينما التجارية والسينما المستقلة. مع ذلك، ليكن من البين بدايةً أن الحدود الفاصلة بين هذين النوعين لم تعد واضحة كما هو الحال قديمًا لأسباب عدة، منها أن ما يحدد ما هو تجاري هو الجمهور؛ أي الطلب، وهذه الشريحة؛ أي الجمهور لم تكن يومًا ما كتلة واضحة المعالم، فهي متجددة ومتغيرة بحسب ظروف العصر الذي نعيشه.
وفي الآونة الأخيرة بدأت تظهر أولى معالم السينما التجارية وذلك من خلال الدعم المادي وتحقيق الشروط التجارية لهذه الصناعة. كما أننا نشهد صدور الكثير من الأفلام الطويلة التي بدأت تخوض منافسات في شباك التذاكر والإيرادات، كما أنها تشارك في منصات سينمائية عالمية، وهذا يعني أننا في صدد نشوء الخط التجاري لصناعة الأفلام، وهذا أمر مبشر لأسباب جمالية واقتصادية واجتماعية؛ السينما التجارية تخلق بيئة تنافسية، كما أنها ترسم ذلك الخط الفاصل الذي نفتقده بين السينما المستقلة أو الفنية والسينما التجارية.
مع ذلك، هناك عدة أمور لا بد أن نأخذها بالحسبان، أولًا علينا أن نستفيد من التجارب العالمية في هذا المجال، حيث يعلمنا تاريخ الفن السابع بأن هناك محطات يُخفق فيها الفنانون لأسباب تجارية بحتة، بمعنى أن هناك رؤى جمالية تذهب بعيدًا عن جماليات الجمهور والمتلقي العام، وهذه الرؤى تقع في مأزق عدم التمكين والدعم المادي؛ لأنها لا تحقق شرطًا في غاية الأهمية بالنسبة إلى السينما التجارية، وأعني التأثير على الجمهور العام. كما أننا لا بد أن نستفيد أيضًا من الحركة السريعة لتغير ثقافة الجماهير مع الزمن، وخاصةً في عصر تعد فيه مقولة السرعة من أهم مقولات عصرنا هذا، وهذا يعني أن السينما التجارية بحاجة إلى عينٍ ثاقبة تؤرخ للتغيرات الطفيفة في بنية الجماهير المعرفية.
وكما ذكرت أن السينما التجارية ضرورة لخلق فضاء حر في مجال الإبداع الفني، كما أنها تحفز على التنافسية بدافع الفوز بالجمهور وتحقيق الأرقام العالية في شباك التذاكر؛ ولأننا في صدد البدايات فنحن من يساهم اليوم في بناء مفهوم السينما التجارية، وهي في جوهرها تأخذ الكثير من سمات سينما هوليوود كونها الأبرز عالميًا في التأثير على الجمهور. مع ذلك، لا بد أن نعي أن سينما هوليوود تمر اليوم بأزمة واضحة في عملية التجدد والإبداع، مما يعني أن هناك ميلًا لكسر الحدود الفاصلة بين السينما المستقلة والتجارية، ونحن من موقفنا أو سياقنا التاريخي علينا أن نكون واعين بهذه الانسدادات التاريخية. الدرس المهم الذي نستنبطه من تاريخ السينما العالمية، هو دقة قراءة الحاضر ومتطلباته، وفهم الجمهور والمتلقي على نحو واسع. كما أننا نعي من هذا التاريخ أيضًا أنه لم يعد من الممكن رفع رؤية أحادية للسينما التجارية، ومن ثم تصديرها، حيث لم تعد السينما المعاصرة تلتزم مثلًا بالبناء الأرسطي للحبكة والشخصيات وغير ذلك، وهذه النقلة حققت نجاحًا على مستوى الجماهير مما يعني أن جمهور اليوم يملك وعيًا ليس ساذجًا كما يحب البعض تصدير مثل هذه الخطابات.
في نهاية المطاف الحدود الفاصلة بين السينما التجارية والمستقلة لم تعد صلبة وواضحة، وهذا ما يقودنا إلى خط جديد، وأعني السينما التعددية، مما يخلق أرشيفًا سينمائيًا منذ البدء لم يقع في الاختزال وحلق بعيدًا في التجريب والتأصيل الجمالي. السينما التجارية في السعودية في بدايتها وهي مبشرة جدًا، والسينما المستقلة لها تاريخ طويل في سياقنا المحلي، ومع اكتمال أركان السينما التجارية ستكتمل بدورها أركان السينما المستقلة، وما سوف نصل إليه وفق حركة تاريخنا المعاصر هو عدم وجود معايير ثابتة وواضحة تفصل بين هذين السياقين؛ مما يعني ضرورة نشوء مجتمع سينمائي نقدي قادر على قراءة الواقع وما يحدث فيه من تغيرات، كما يعني أننا بحاجة إلى مخرجين على قدر كبير من المعرفة في تاريخ السينما والجماليات. وكل هذا يقودنا إلى وضع أسس السينما التجارية المحلية والعالمية من خلال وعي عميق بالمتغيرات الجذرية والطفيفة في تاريخ السينما المعاصرة.
الخلاصة أن عملية الإبداع عصية على التحديد والقولبة، فهي في تجدد وتغير مستمر، ووعي هذه النقطة يضع السينما السعودية على طريق آمن بحيث تبدع سينما تجارية وفي ذات الوقت لا تضحي بجماليات السينما المستقلة، وهنا ندرك أنه ليس بينهما تفاضل، بل علاقة تكاملية لا بد من تحققها من أجل مستقبل واعد.