محمد سيد ريان
للوهلة الأولى تثير اللقطات والمشاهد في بداية الفيلم حنينًا للماضي الجميل، متمثلاً في المباني العريقة التي تحيي لدينا ذكريات لأحداث ووقائع رمزية لها معانٍ جميلة. كما نُعجب بالنظام الشخصي وهيئة النبلاء العظام في التعامل وأداء الأعمال، ولكن سرعان ما نكتشف أن الأمر لم يكن بهذا الجمال المتخيل، فقد كان لهذا العصر أيضًا مشكلاته ومتاعبه، ومنها الداء الأكبر داخل هذا الكيان المنتظم، وهو البيروقراطية البغيضة التي تتمثل في الروتين الوظيفي القاتل طول الوقت.
تزداد عظمة هذا الفيلم مع وجود رؤية مهمة لدى كل من المؤلف والمخرج، ويكفي أن تعرف أن المؤلف هو الكاتب الياباني كازو إيشيجورو، الحائز جائزة نوبل، وهو ما جعل مشاهدة الفيلم أشبه بقراءة رواية أدبية تتجسد على شاشة العرض، وقد شاركه في الكتابة المخرج الياباني الراحل أكيرا كوروساوا، صاحب التاريخ الطويل. أما مخرج هذا العمل الشاب أوليفر هيرمانوس، فيبدو أكثر احترافية في هذا العمل.
تبدو الشخصية الرئيسية للفيلم ويليامز «بيل ناي» الأقرب لشخصية الموظف التقليدي الكبير سنًا، وتأتي النقطة المحورية للتغيير في حياته بعد ضياع كل عمره تقريبًا في الوظيفة باكتشافه أنه مصاب بمرض الموت، وأن عليه انتظار النهاية في فترة تتراوح بين 6 و9 أشهر، وعلى خلاف المتوقع من الدخول في حالة الحزن واليأس والإحباط ليصبح فريسة سهلة بالوفاة السريعة؛ لقد قرر أن يستمتع ولو بضع لحظات بحياته، وهي رسالة مهمة للفيلم في عالم يتحرك سريعًا كالآلة دون إدراك للمشاعر أو الأحاسيس الإنسانية.
كسر الروتين من جانبه كان أول ما فعله ، وظهر ذلك في الاستئذان قبل أوقات العمل أو عدم الحضور لأيام عديدة، وكان قمة نجاحه في عثوره على أشخاص كانوا أقرب إليه من عائلته الصغيرة، وهم صديقه الذي قابله في المطعم والذي سيدعمه في الاستمتاع بالحياة فيتخلى عن أساليبه القديمة ويغني ويمرح ويلهو دون انتظار؛ وهاريس (أيمي لو وود) الموظفة التي تتمرد أيضًا على الوظيفة في شبابها لأنها تكبلها بالقيود على عكس شخصيتها التي تتميز بالحيوية والبهجة والحرية والانطلاق فيتعلق بها دون ابتذال، وعلى الرغم من نظرتها الأولى لويليامز بأنه يشبه المومياوات لتكتشف مع لقاءاتها المتكررة أنه شخص عادي وحساس ولكن الوظيفة هي القيد، ويزداد تعاطفها معه بعد علمها بمرضه، وهو ما يكسبه أملًا جديدًا في لحظات سعيدة قبل الرحيل.
من الرسائل المهمة التي يطرحها الفيلم فكرة العمل للمستقبل وليس للحاضر فقط، فعلى الرغم من اللحظات القليلة المتبقية في حياة ويليامز يقضي بعضًا منها في تحقيق رغبة مهمة، وهي إنشاء ملعب للأطفال متغلبًا على العوائق الروتينية التي كان هو نفسه في الماضي عقبة منها، وهو ما يؤكد على بقاء الأثر بعد وفاته؛ فالعمل الحقيقي أن تمهد الطريق لغيرك وتساعد الجيل الجديد على البهجة واللعب، وتظهر هذه الرؤية في علاقته بالموظف الشاب الجديد «أليكس شارب» ووصيته له في وقت مبكر من حياته بالاستمتاع.
جاء الفيلم على عكس النهايات التقليدية السعيدة بحدوث أمر يحول دون موت ويليامز، ولكن الأمر قضي بتحقق نبوءة الطبيب كرسالة مهمة على خطورة وأهمية القضية المطروحة بالعمل.
ولا يخلو الفيلم من بعض المشاهد التي تبدو مقحمة كمشهد حوارات الزملاء في القطار بعد وفاة ويليامز، والذي كان يحمل قدرًا كبيرًا من المباشرة والسطحية والإجابات المدرسية بضرورة تغيرهم للأفضل وإدانة البيروقراطية البغيضة، وهو أمر لم يحدث ولن يحدث، فسرعان ما عادوا لعجلة الروتين المملة بعد وصولهم.
وتتجلى عبقرية هذا الفيلم في أن ما يطرحه ليس من الماضي في أحيان كثيرة، فحتى في عصرنا الحالي، الذي تتجلى فيه منجزات العلم والتكنولوجيا، هناك أيضًا روتين قاتل علينا أن نوقفه للحظات قليلة لنستمتع بحياتنا قبل فوات الأوان.