محمد عبدالله الأنصاري
في مثل هذا اليوم من ديسمبر العام الماضي، كنت مِمَّن سنحت لهم فرصة الجلوس ومناقشة المخرج البريطاني Guy ritchie مخرج فيلم Snatch وسلسلة أفلام Sherlock Holmes، في مبادرة دعم أقامتها Film Alula لصُناع الأفلام المحليين، أثناء سماعنا وحديثنا مع قاي ريتشي، ذكر من وجهة نظره وخبرته نقطة أصبحت هاجسًا يجول في ذهني منذ لقائنا، وهي تشبيه مخرجي الأفلام بالأسود في الغابات، والأسود في الحدائق.
يقصد قاي ريتشي أن الغابات بنسبة للأسود وصانعي الأفلام المستقلين هي ملاذ آمن للإبداع بعيدًا عن جهات الدعم التي من المفترض أن توفر سبل الراحة في الحدائق. يواجه صانعو الأفلام في كل محاولة صيد لأي عمل سينمائي عددًا لا يحصى من العقبات تمامًا كالتي يواجهها الأسود في الغابة.. لكن هذا النوع من الحرية التي يمتلكها المخرجون في الغابة تتيح لهم التجربة والمخاطرة وكذلك المساحة لاتخاذ قرارات جريئة لا يمكن أن تكون خيارًا داخل أقفاص الاستديوهات الكبيرة.
الغابة بالنسبة إلى قاي ريتشي هي منطقة فنية مريحة للفنان تتيح له اكتشاف شغفه والتنبيش عن أسلوبه الخاص. أما أسود الحدائق التي تستمتع بتكرار الحركة التي صفقَ لها زوارها في المرة السابقة، تشبه كثيرًا المخرجين الذي يعملون تحت عقود الحدائق التي لديها مساحات فنية بطبيعة الحال وحلول إبداعية محدودة بما يتناسب مع الزوار.
يجب على العاملين داخل الحديقة اتباع الأساليب السابقة التي تم تنفيذها من قبل وأثبتت عملها في الحديقة. العمل من داخل الأقفاص لا يبني أعمالاً سينمائية تخص صانعي الأفلام، بل في الغالب هذه الأعمال التي قد تكون سينمائية يمكن للمسؤولين في الحديقة عند مواجهة أي عقبة مع صانع الأفلام الحالي استبداله بآخر، وفي حالات آخر إجباره على تنفيذ العمل تحت حجة شروط العقد. في نظر قاي ريتشي، صانع الأفلام المتلهف لبناء صورة فنية جديدة ورواية قصص جريئة، لا يضع حدًا بينه وبين أفكاره، ولا يُقبل جبين المهرجانات.
قد تكون الاستمرارية هي إحدى الأساسيات التي تبنى عليها سمعة صانع الأفلام، مخرج كـ«جورج لوكس» و«كلينت يستود» في كل حقبة زمنية يملكان رزمة كلاسيكيات يتذكرونهما فيها جيل هذه الحقبة. على النقيض هناك من لديهم وجهة نظر مختلفة كـ«تيريس مالك» و«بول توماس أنديرسون» ونظرتهما حول أن لكل فيلم مساحته ووقته، ستلاحظ من خلال التسلسل الزمني أن «مالك» ترك مشهد صناعة الأفلام لمدة 20 عامًا، وهو غياب أكسبه سمعة باعتباره منعزلاً. ومع ذلك، فإن عدد الأشخاص الذين التقوا به وعملوا معه على مر السنوات كبير، من الممثلين والمنتجين إلى المصورين السينمائيين. عندما مُنح فيلم «The Tree of Life» أعلى جائزة فنية للسينما في مهرجان كان، لم يحضر «مالك» لاستلامها، استلم الجائزة اثنان من المنتجين نيابة عنه على مسرح Grand Théâtre Lumière، قبل خمسة أيام، في العرض الأول للفيلم في نفس المسرح، شوهد «مالك» وهو يحوم في الظل، لم يلاحظه أحد من الحضور. لا يمكن لوم «مالك» على قراره بعدم الخضوع تحت أجندة هوليوود الإعلامية وعدم سيره على السجادة الحمراء برفقة «براد بيت»، قد اصطف خلف صف أن المتعة الحقيقية لصانع الأفلام تأتي وبشكل أساسي في عرض الفيلم على الجمهور وترقب ردة الفعل العفوية.
لا يمكن أن يصل المخرج «Taika Waititi» إلى درجة من السذاجة وإنتاج عمل كـ«Thor: Love and Thunder» بعد رفع سقف التوقعات الفنية بـ«Hunt for the Wliderpeople» و«Jojo Rabbit» ويتوقع تصفيقًا حارًا بعد تنازله عن رؤيته كفنان. الحديقة التي تملك قطيعًا من الأسود تتيح لهم تناول وجبات دسمة طوال أيام السنة في مقابل التنازل عن كونها أسودًا في بعض الأحيان. ضياع صانعي الأفلام بين العمل الفني والعملة النقدية لا يمكن أن يُنتج إلا أعمالاً فاقدة للشخصية تمامًا كأسود الحدائق.
«لا سلطة تعلو فوق الفكرة». بنيت الأعمال الكلاسيكية بفكرة، لوحات الفنان فان جوخ كانت تحمل فكرة، معزوفات باخ وبيتهوفن تسير على إيقاع فكرة، أفلام فيليني، وجون لوك غودار، وتاركوفسكي كانت تصور فكرة، سلطة العملة النقدية قد تطغى في الجانب التنفيذي. لكن لطالما كانت الفكرة هي حجر الأساس التي يبنى عليها أي عمل سينمائي، تجاريًا كان أو مستقلاً، لا تبنى الأفلام بصورة عكسية، ولا يمكن للمال أن يكون مقياس العمل السينمائي الرائع. الفيلم الكلاسيكي الأشهر للمخرج جون لوك غودار «Breathless» كان بميزانية 400.000 فرنك فرنسي بما يساوي 7 آلاف دولار فقط.. لإنتاج فيلم يدرس داخل فصول السينما، لا تبدو أقفاص الحدائق مكانًا ملائمًا لصانع أفلام يريد استكشاف وخوض مغامرات الغابات.