د. أشرف راجح
يقول الشاعر والناقد الأدبي الشهير «ت. إس. إليوت» بأنه «يجب أن يكون هناك انفصال حدي بين الإنسان الذي يعاني والعقل الذي يخلق»، وهذا الانفصال يعني استيعاب التجربة كاملة قبل التعبير عنها فنيًا، وهو أمر قد يستغرق بعض الوقت بطبيعة الحال؛ مما يجعل الكاتب المبدع يقف حائرًا بين نوعين من الفن، أحدهما قد يطلق عليه «فن المناسبات»، أو الفن الذي يلقي الضوء على أحداث راهنة بكل ما بها من سخونة دون أن يستوعبها تمام الاستيعاب، وبين «الفن الحقيقي» الذي يأخذ فيه الفنان وقته الكافي لاختمار أفكاره ووصوله إلى ما أسماه إليوت «المعادل الموضوعي» للتجربة مصاغًا في صورة عمل فني. ولكن بما أننا جميعًا نرى ضرورة لأن يقول الكاتب كلمته في الوقت الذي يجب أن تقال فيه، فإن ذلك لا يعني بحال تقديمه «فن المناسبات»، ولكن يعني أن نرى في موقف بعينه ما تعنيه تلك التجربة الإنسانية لنا. ومن هنا يمكن أن يلجأ الفنان إلى استخدام الرمزية التي قد تكون مفيدة في تحقيق هذا الانفصال الذي يشير إليوت إليه.
والرمزية هنا يجب أن تستند إلى خبرة إنسانية واسعة، كأن يستخدم الكاتب المسرحي الشهير «أرثر ميلر»، مثلاً، واقعة تاريخية حقيقية حدثت في مدينة «سالم» الأميركية قديمًا حول إحراق سيدات «أشيع عنهن أنهن ساحرات» كمادة لمسرحيته «البوتقة» أو «ساحرات سالم»، ليعبر من خلالها عن رأيه فيما أدت إليه «المكارثية» المعاصرة له في مطلع الخمسينيات، تلك اللجنة النيابية بقيادة السناتور «جو مكارثي» التي وضعت عددًا من كبار الفنانين والكتاب في قوائم سوداء حرمتهم من حق العمل والحياة تحت دعاوى انتمائهم لليسار، من خلال وشايات لزملاء لهم، ثم يعود بعد 16 عامًا ليقدم هذه الفترة التي كان هو نفسه أحد أبطالها في مسرحيته «بعد السقوط»، بعد أن يتأملها إنسانيًا من خلال تجربته الشخصية، بكل ما تلاها من أحداث في حياته. الرمز إذًا ليس شيئًا مجردًا، ولكنه نتاج تجربة تاريخية وإنسانية لمبدع، يتواصل مع المتلقي ليفك شفرتها.
ونتوقف عند الحدث التاريخي الكبير «ثورة يناير 2011»، وما قدم عنها من أفلام بدءًا من أفلام وضعتها كتحية إضافية مناسبة في بعض المشاهد النهائية مثل فيلم «صرخة نملة» الذي قدم في ذات العام، ومعه فيلم «الفاجومي» الذي تدور أحداثه حول حياة الشاعر الكبير «أحمد فؤاد نجم» أحد أشهر شعراء العامية المصرية؛ إذ يتطرق الفيلم إلى أهم المراحل التاريخية والثورية والنضالية للشاعر في محاربة الظلم والقهر والقمع السياسي الذي تعرض له وعمليات اعتقاله وسجنه، وتنتهي الأحداث بالثورة المصرية التي تفجرت أخيرًا والتي تنبأ بها الشاعر قبل ثلاثين عامًا. في مقابل تجربة هامة في فيلم «18 يوم» الذي تم إنتاجه عام 2011 أيضًا، وينتمي إلى فئة الأفلام المستقلة، ويتناول عدة قصص تدور حول ثورة 25 يناير أو أثنائها، وشارك فيه 10 مخرجين و8 مؤلفين وعدد كبير من الممثلين المعروفين، ويتكون من 10 أفلام قصيرة لكل منها مخرج ومؤلف وممثلون بشكل منفصل. ثم «بعد الموقعة» عام 2012 وهو فيلم يتناول أحداث ثورة 25 يناير وموقعة الجمل، وتبدأ أحداث الفيلم في مارس 2011 مع الاستفتاء على الدستور، وتنتهي في أكتوبر من العام نفسه. والكوميديا السياسية «حظ سعيد» من إنتاج عام 2012 أيضًا، وتدور أحداث الفيلم حول شخصية سعيد الذي يسعى جاهدًا لإتمام زواجه من الفتاة سماح ويقدم طلبًا للحصول على شقة ضمن أحد مشروعات المحافظة، ولكن بعد الحصول على الموافقة يفاجأ بأحداث ثورة 25 يناير، وهو ما يمنعه من استلامها وتأخر زواجه، إلى جانب معاناته في محاولة إنقاذ شقيقته وفاء من الاستمرار ضمن صفوف الثوار، إلا أنه يفاجأ بنفسه شخصيًا وسط تلك الصفوف.
وتتوالى الأحداث مع نزول الجيش للشوارع ومحاكمة مبارك ونجليه ونظامه السابق، إذ يتمكن أخيرًا سعيد من الزواج بسماح، وإنجاب ثلاثة أولاد أفكارهم مختلفة ما بين الليبرالي «حمزاوي»، والسلفي «بكار»، والإخواني «بديع»! ثم يأتي فيلم «الشتا اللي فات» إنتاج عام 2013، وتدور أحداثه في أثناء ثورة 25 يناير وذلك في إطار ثلاث قصص إنسانية وقت الثورة. الأولى لضابط بمباحث أمن الدولة، والثانية لمذيعة تليفزيونية، والثالثة لمهندس كمبيوتر وعلاقتهم بالثورة المصرية.
ويكون مهندس البرمجة على علاقة بفئات شبابية كان لها دور كبير في الثورة، إذ يحاول الفيلم تحليل الأسباب التي أدت إلى تفشي الفساد طوال 30 سنة ماضية؛ وصولاً إلى فيلم «نوارة» عام 2015، وتدور قصة الفيلم حول الفتاة نوارة التي تعيش قصة حب أثناء ثورة يناير، مستعرضًا أثر ما كان يجري في مصر خلال تلك الفترة على نوارة وعلى قصة حبها، وكذلك على عملها كخادمة في فيلا أحد الوزراء السابقين. وكخلاصة، بعيدًا عن التقييم الفني لأي من تلك التجارب السابقة، فإننا نستطيع أن نرى موقفًا «طبيعيًا» شبه موحد من الثورة كحدث إيجابي للتغيير.
والآن نصل إلى أحد الأفلام التي جاءت بعد عدد طيب من السنوات التي جرت بها أحداث كثيرة، أو جرى بها كثير من المياه تحت الجسور كما يقولون. إنه فيلم «عيار ناري» إنتاج 2018 ومن ﺗﺄﻟﻴﻒ هيثم دبور وإخراج كريم الشناوي. يبدأ الفيلم بعد أحد الصدامات الشهيرة بين مجموعات المتظاهرين وقوات الأمن في نوفمبر 2012، حيث تصل الجثث إلى المشرحة، ويكتب الطبيب الشرعي ياسين المانسترلي في تقريره الطبي بعد معاينة إحدى الجثث ما يفيد بأن هذا القتيل قد أصيب بطلق ناري من مسافة قريبة، وليس من مسافة بعيدة مثل بقية الجثث، لكن المشاكل تبدأ حين يتسرب هذا التقرير الطبي للإعلام. ياسين المانسترلي «أحمد الفيشاوي» الطبيب الشرعي بمشرحة زينهم، بارع في عمله، منطوٍ على نفسه، بلا أصدقاء، يتناول الخمر أثناء العمل، ويعاني من اتهام والده وزير الصحة الأسبق مصطفى المانسترلي «أحمد كمال» بقضية فساد أطاحت به من الوزارة. لم تدنه المحكمة، ولكن أدانه المجتمع.
لم يكن الوزير يهتم بنفي تلك التهمة قدر ما كان يهمه أن يصدقه أبناؤه، ولم يستطع ياسين أن يصدق والده، فابتعد عن الجميع. وصلت للمشرحة جثة علاء أبو زيد «أحمد مالك» مصابة بعيار ناري في مظاهرات «لاظوغلي»، وبتشريح الجثة اتضح أن العيار الناري من سلاح «محلي»: مسدس حلوان، ومن مسافة قريبة أقل من المتر، ومطلق الرصاصة يستخدم يده اليسرى، وكتب تقريره بذلك. مها عوني «روبي» صحفية بجريدة الأيام، تعمل بقسم التحقيقات، وتستعين بكاتب المشرحة ليمدها بالمعلومات مقابل المال، وقد أمدها بصورة من التقرير الذي كتبه الدكتور ياسين، قبل صدوره رسميًا، وقامت بنشره في الجريدة.
وكانت المشكلة أن الصفة التشريحية تفيد بأن القتيل لم يصب برصاصات قناصي الداخلية من مسافة بعيدة، بل من مسافة قريبة جدًا، وبذلك لا يأخذ صفة الشهيد، ولا يحق له الحصول على إحدى الشقق التي توزعها المحافظة على أهالي الشهداء. يتجمهر أهل القتيل وأهل حارته أمام مشرحة «زينهم»، وعلى رأسهم أخوه الأكبر خالد «محمد ممدوح» الذي يعمل في المحاجر، اعتراضًا على فحوى التقرير. الدكتورة محاسن «صفاء الطوخي» مديرة المشرحة التي لا تريد الدخول في مشاكل، خاصة مع حالة الشرطة التي هي في وضع لا يسمح لها بحماية المشرحة، تصرح أن التقرير الذي نشرته الجريدة مزور، وأن التقرير الصحيح يذكر أن العيار انطلق من مسافة بعيدة. توقف الدكتور ياسين عن العمل، وتحيله للتحقيق لتسريبه التقرير للصحافة، بل وزادت الأمر سوءًا بأن أوعزت لعاملة المشرحة بالسماح للصحفية مها بدخول المشرحة، وتصوير زجاجة الخمر التي يحتفظ بها ياسين داخل ثلاجة حفظ الموتى، وتم نشر صورة الزجاجة بداخل الثلاجة في صدر الصحيفة، لتكتمل إدانة الدكتور ياسين. يسعى الطبيب لإثبات صحة تقريره، فيتواصل مع والدة القتيل سيادة «عارفة عبد الرسول»، التي تؤكد له أن ابنها جاء من الميدان مصابًا بطلق ناري وتوفي بالمنزل.
يتعاون ياسين مع الصحفية مها التي تريد أيضًا إثبات صحة التقرير الذي نشرته. يحوم ياسين حول الأخ الأكبر خالد، الذي تسلم شقة المحافظة، بالإضافة إلى محل موبايلات في المعادي تبرع به أحد رجال الأعمال لأسرة الشهيد، كما يستعد للزواج من خطيبة أخيه الشهيد سلمى «أسماء أبو اليزيد». يلحظ كذلك أن خالدًا أعسر، فيتهمه بقتل أخيه، بسبب نزاعهما على الفتاة سلمى. نعرف أن سلمى كانت حاملاً من خطيبها علاء، ولذلك وافق والدها «محمد رضوان» على زواجها من خالد، لتجنب الفضيحة. وكانت المفاجأة عندما ذهب ياسين مع مها لمنزل «الشهيد» علاء، ليكتشفا أن خالدًا يعقد قرانه على خطيبة أخيه، في منزل العريس، وفي وجود والد ووالدة سلمى. ياسين يتهم الجميع بالتواطؤ، وأن علاء قد قتل بالمنزل، وليس بالمظاهرات. تعترف الأم بقسوة ودناءة ابنها علاء، واقتراضه المال من الجميع، وحمل سلمى منه، ومحاولة إجبارها على التوقيع على عقد تنازلها عن البيت لصالحه، ليبيعه ويتزوج من سلمى قبل الفضيحة، وعندما رفضت التوقيع، اعتدى عليها ضربًا وسحلاً حتى توقع مجبرة على التنازل مستغلاً غياب أخيه الطويل في عمله الشاق، وعندما دخل عليهم خالد وحاول إنقاذها، أخرج علاء مسدسًا مهددًا أخاه خالدًا الذي انتزع منه المسدس، وأثناء صراعهما انطلقت منه رصاصة قتلت علاء. الجميع تواطأ على أن إصابة علاء جاءت في المظاهرات، فالحارة كلها تعلم أن علاء فاسد وبلطجي، ويريد أخذ البيت من أمه عنوة، حتى ظن الجميع أنها هي من قتلت ابنها، ولذلك يتعاطف الجميع معها، ويخفون الحقيقة. تدع الأم الدكتور ياسين والصحفية مها يغادران في سلام، وقد تركتهما لضميريهما. أيقن الدكتور ومعه الصحفية أن الحقيقة بوجه واحد، هو رأي الأغلبية أو الشيء الذي اتفق عليه الناس.
فيلم به ظلال ثورة يناير بقوة عن مجتمع مأزوم وفاسد حتى النخاع. الصحفية تحصل على المعلومات من المصادر عن طريق الرشوة. المديرة تحمي نفسها بالتزوير دون أن يطرف لها جفن. الوزير «الفاسد» يرقد في غرفته بالمستشفى الفاخر حبيس الشائعات دون أن يجد حسمًا بعدالة تبرئه أو تدينه، كل هذا حتى بعد قيام انتفاضة شعبية هائلة دفع ثمنها الملايين من الحالمين بالتغيير للأفضل، و«الأعدل». إنه فيلم لا يطلق شعارات ضخمة أو تصريحات كبيرة، ولا يقدم حلاً سحريًا لأرباب نظرية المؤامرة التي ترى أنه من الممكن صنع «ثورات» بإعطاء الشباب المنفلت مبلغًا زهيدًا من المال وبعض الأقراص المخدرة. إنه فيلم عن البؤس الإنساني الذي هو بالأساس «وقود الثورات». نستطيع أن نتوقف طويلاً عند طاقم العمل – ومعظمهم من الشباب – وإسهاماتهم المميزة، بدءًا من النص القوي للكاتب هيثم دبور، والتصوير المبدع لمدير التصوير الشاب عبدالسلام موسى، والإشراف الفني الغني بالتفاصيل لمهندس الديكور علي حسام، والمونتاج السلس للمونتير أحمد حافظ، ودور المنتج الفنان محمد حفظي في توفير كافة العناصر الفنية للعمل بجودة عالية مهما تكبد الأمر، بما فيها استخدام «أوركسترا فلهارموني» في تسجيل موسيقى الفيلم للفنان أمين أبو حافة. أما المخرج الشاب كريم الشناوي، فكان ربان سفينة العمل الحكيم الذي نجح في قيادتها بتوازن «الشيوخ»، وحلق بجناحين تمثل الأول في قدر كبير من الإحكام في التعبير السمعي البصري، وتمثل الثاني في التسكين الممتاز للأدوار، وإدارة كتيبة الممثلين، خاصة مع مستوى التمثيل الرائع من النجوم أحمد الفيشاوي وروبي ومحمد ممدوح وعارفة عبد الرسول وأسماء أبو اليزيد وأحمد مالك ومحمد رضوان.
نجح كريم الشناوي في أن يصيب «عياره الناري» هدفه فنيًا، حتى لو لم يصنع «نجاحًا تجاريًا» ملحوظًا وقت عرضه أو أثار «دوشة» كبرى! فقد صنع فيلمًا سيحيا ليشاهد، ويبقى مثيرًا للتأمل والتحليل.
وفي الختام يبقى السؤال كالجرح المفتوح: «هل الحقيقة هي ما تصدقه وتؤمّن عليه الأغلبية، أم أن الحقيقة هي الحقيقة؟» وتبقى كذلك جملة التقرير الأصلي، تلك التي ظل الطبيب الشاب يرددها في مواقف عدة لكل من يلتقيه من شخصيات الفيلم «عيار ناري من مسافة قريبة قوي زي اللي بيني وبينك كدة»، حتى ولو تراجع عنها في النهاية تعاطفًا مع البؤس الإنساني، كأنها إعلان دائم ومستمر عن أن الحقائق لا تموت حتى لو سعى الجميع لدفنها، من أجل «الصالح العام».