د. أشرف راجح
يشير الأكاديمي «ويليام كوستانزو» إلى أن بعض منتقدي هوليوود يشكون من أن الأفلام الأميركية السائدة تسيطر على شاشات السينما حول العالم ولا تترك مجالاً للمنافس المحلي. وينظر هؤلاء إلى «الهيمنة الإعلامية» لهوليوود كنوع من الإمبريالية الثقافية؛ فعلى سبيل المثال، طرح الناقد الإيطالي الماركسي الشهير «أنطونيو جرامشي» مقولة أن هوليوود صدرت «القيم الأميركية» مع منتجاتها. لكن هناك آخرين مثل الناقد «إيد باسكوم» ينظرون إلى نجاح هوليوود ليس كقوة غاشمة تعيد إنتاج الأيديولوجية الرأسمالية، بل بسبب أنها تمتلك القدرة على إعطاء الجمهور نوع الترفيه الذي يريده.
ولكن الواقع يتجاوز كثيرًا مجرد فكرة الترفيه «الجيد». إن العناصر السردية التي تقدم في الفيلم، ليست مجرد عناصر بنائية في إطار المحكي سينمائيًا، وإنما هي تتحول إلى قوالب عقلية تتخلق وتستقر، كي تحتوي على المعلومات المطلوبة لمتابعة السرد، وهي تحل تدريجيًا محل قواعد الاستدلال العقلي المختلفة، بل وتعيد صياغتها في إطار معطيات محددة سلفًا. إنها أشبه بتطبيقات توضع على الحاسوب لتعالج تلك المعلومات بطريقة مصممة بدقة. ولكن، ماذا لو حدث العكس، فأسهم منطق «الأفلام» في صياغة السياسات الداخلية والخارجية لدولة عظمى كانت لسنوات طوال هي القطب الأوحد المتحكم في الخريطة الكوكبية؟!
في فيلم «اختطاف طائرة الرئيس Air Force One» الذي عرض في عام 1997، يعلن الرئيس الأميركي في خطاب مفاجئ أن أميركا لن تتفاوض مع من تسميهم إرهابيين، بعد ثلاثة أسابيع من عملية خاصة أميركية روسية مشتركة للقبض على قائد روسي متطرف في أعقاب الانهيار الذي حدث للإمبراطورية السوفييتية أو «إمبراطورية الشر» كما كان يسميها بعض كبار الساسة الأميركيين في خطابهم المعلن. يتسلل مجموعة من السوفييت القوميين الجدد إلى طائرة الرئيس الأميركي «جيمس مارشال» «هاريسون فورد»، بمعاونة أحد أفراد الحرس الشخصي الرئاسي، وسرعان ما يختطفون الطائرة ويسيطرون عليها. وبالطبع بعد مغامرات عديدة ومشقة بالغة ينجح «الرئيس» في إنقاذ الموقف. وحين يصرخ الرئيس الأميركي في نهاية الفيلم مع قدوم طائراته «أخيرًا … مرحى… لقد حضر الأخيار!»، كان يضع نقاطًا مضيئة حول هذا المفهوم السينمائي الأولي، أو محاولة تقسيم العالم الدرامي ببساطة إلى أخيار وأشرار؛ هذا التقسيم الأولي البسيط الذي لا يوجد له أي حجية في الحياة، ولا يكتسب منطقًا حقيقيًا للميل لجانب دون آخر.
لقد شرعت روما القديمة «سيفها وقانونها» في مواجهة «البرابرة» الذين يمثلون العالم بأسره خارجها، في مقابل من ينعمون بالحضارة داخل نظام الإمبراطورية المنتصرة. أمَّا مع مطلع الألفية الجديدة، فإن الإمبراطورية الأميركية التي خرجت من الحرب الباردة منتصرة، فقد قسمت العالم على حد منطوق رئيس الولايات المتحدة الأميركية في هذا الوقت أيضًا إلى أخيار وأشرار، أو دول مارقة، في مقابل دول تنعم بالرضا المشروط بالطاعة. والأفلام التي قدمتها السينما الأميركية في نهاية حقبة التسعينيات ثرية جدًا بما يؤسس لهذا الأمر. وبتتبعها نستطيع أن نرى تلك النقلة التي حققتها السينما الأميركية من مستهلك للحدث السياسي ومتأثر به في عقود سابقة، إلى صانع له من خلال تأثير يقترب من الفورية والمباشرة. والنماذج عديدة أجلُّ من أن تحصى بدءًا من فيلمنا الذي تحدثنا عنه «اختطاف طائرة الرئيس Air Force One» عام 1997، أو فيلم «ذيل الكلب Wag the Dog» عام 1997 أيضًا، أو فيلم «عدو الدولة Enemy of the State» عام 1998، وكذلك «الألوان الأساسية Primary Colors» عام 1999، تلك الأفلام التي استخدم السياسيون في الألفية الجديدة أجزاء من حواراتها في خطابهم العام، وكأن السينما قد قررت أن تتمرد، وتصنع بنفسها – مبكرًا – «أدبيات» رجال السياسة ومنطوقهم، ولا تنتظر أن تكون انعكاسًا لأحد!