عبد الرحمن مظهر الهلوش
يتتبع الناقد السينمائي اللبناني إبراهيم العريس في كتابه «من مكة إلى كان – سينما عبد الله المحيسن»، الصادر في بيروت عن «الدار العربية للعلوم ناشرون»، الطبعة الأولى، مارس (آذار) 2019، سيرة المخرج السينمائي السعودي عبد الله المحيسن، وسنوات تكوينه، ثم يقف عند المتن السينمائي الذي لا يزال بحاجة إلى أن يكتمل في السنوات المقبلة، وهذا ما يعبر عنه الكتاب في واحد من فصوله المهمة، وكذلك يتحدث عن أفكاره فيما يخص السينما، ودورها الجمالي والاجتماعي. ونقرأ في الكتاب عن تأثيرات مكة الروحانية والدينية على المخرج عبد الله المحيسن، وكيف وظفها بلغة سينمائية معاصرة عكست فهماً عميقاً لتأثيرات عصر الصورة في حروب الكلمة الحديثة.
يفتتح المؤلف كتابه بالحديث عن سيرة عبد الله المحيسن، حيث وُلِدَ في مكة عام (1947)، وكانت نشأته أدبية، من ناحية أن جو الأسرة كان جو قراءة وثقافة. وقد كانت القراءة هي وسيلة الترفيه الوحيدة المتاحة لعبد الله المحيسن، وكانت أولى قراءات المحيسن في التاريخ، تاريخ بلده وتاريخ البلدان العربية. درس المحيسن المرحلة الابتدائية والمتوسطة في المملكة العربية السعودية، ثم ذهب إلى لبنان من أجل مواصلة دراسته الثانوية. وعقب ذلك، سافر إلى بريطانيا ليدرس السينما في معهد لندن للفيلم (London School of Film)، وحصل منه على دبلوم عالٍ في الإخراج السينمائي عام 1975م، والتحق خلال الفترة نفسها، بين عامي 1973 و1975، بالأكاديمية الملكية البريطانية للتلفزيون، حيث قضى ستة أشهر أخرى استقى فيها الأساسيات النظرية المتعلقة بصناعة الأفلام، ثم عاد في السنة ذاتها إلى المملكة العربية السعودية، ليؤسس الشركة العالمية للدعاية والإعلان. ومن منتصف السبعينات، انطلق المخرج السعودي عبد الله المحيسن في مسيرته السينمائية الرائدة. وكنتاج لهذه المسيرة المميزة، احتل عبد الله المحيسن مكانته المهمة بين السينمائيين العرب، وبرز ذلك في اختياره عضواً للجنة تحكيم مهرجان القاهرة السينمائي الثاني عام 1978، كما تم اختياره عضواً في لجان تحكيم مهرجان الخليج الأول للإنتاج التلفزيوني الذي عُقِد في الكويت عام 1979.
وحيداً وسط الضباب
من البديهي أن أي حديث عن عبد الله المحيسن، في تاريخه السينمائي على الأقل، لا يمكنه أن ينطلق إلا من تحديد مكانته في تاريخ السينما في بلده. ويبين المؤلف أولاً أن هذا التاريخ يبدو لنا متعرجاً، ولكن من الممكن أن نجعل تاريخ السينما السعودية بشكل عام يرتبط بما يمكن أن نطلق عليه «ظاهرة عبد الله المحيسن»، أو ربما «مؤسس السينما السعودية». ويعود المؤلف إلى عقدين من الزمن، ليوثق مشاهداته في مدن المملكة العربية السعودية، قبل القرار الثوري السعودي بعودة السينما، وفي ظل رعاية رسمية، إلى الحياة الاجتماعية في المملكة العربية السعودية. وفي واحدة من زياراته للسعودية بداية هذا القرن، أُتيح للعريس خلال جولة صحافية في الرياض وما جاورها أن يرصد ظاهرة لم يكن يتوقعها في كثير من مقاهٍ منتشرة على أطراف من العاصمة. فقد كانت ثمة شاشات تلفزيونية عملاقة معلقة في صالات المقاهي، وشكلت تلك العروض السينمائية سينما حقيقة تضاهي تلك التي تُقدم عادة في الصالات.
مؤسس السينما السعودية
لقد شكلت ظاهرة عبد الله المحيسن مادة خصبة استطاع أن يوثقها المؤلف ببراعة من خلال تتبع سيرة المحيسن السينمائية منذ بداياتها، حيث عمل المحيسن سنوات طويلة خارج الأضواء، إلى أن حانت الفرصة لكي يُخرج مشروعه السينمائي العملاق إلى العلن، عبر مجموعة أفلام سينمائية تخطت الحدود المحلية. فقد أنجز المحيسن فيلماً تسجيلياً «اغتيال مدينة» (1976 – 1977)، يتحدث عن الحرب الأهلية في لبنان التي اندلعت عام 1975 بين الفصائل اللبنانية المختلفة. وأول ما يلفت الانتباه في هذا الفيلم أنه صُوِّر بعد اندلاع الحرب مباشرة، في وقت كانت فيه بيروت مكاناً خطراً من المجازفة السفر إليه. ومع ذلك، فإن تنوّع اللقطات وغزارة الصور، التي أخذها المحيسن خصيصاً من قلب الحدث، تمنح الفيلم قيمته التوثيقية المهمة، وتجعل منه تسجيلاً حياً لبشاعة الحرب. وقد استخدم المحيسن، حسب المؤلف، لغة سينمائية مكثفة، جسدت البعد السياسي للحرب، رابطاً بين لعبة «الكبار» ولعبة «الصغار». وأخرج كذلك فيلم «ظلال الصمت» (2006)، الذي قارب فيه بتأملٍ فني الواقع العربي. ومن خلال هذا الفيلم، استطاع المحيسن فتح الطريق بقوة واقتدار بالنسبة للسينما السعودية، ولكن بشيء من الحذر أيضاً. فمنذ البداية، أراد المحيسن لـ«ظلال الصمت» أن يكون فيلم قضية ورسالة، من ناحيته الفكرية، وقد شارك فيه عدد من الفنانين العرب، ولقي قبولاً ملحوظاً عند المشاهد السعودي والعربي. وفي سنة 1976، قام بإنشاء أول استوديو إذاعي متكامل على مستوى القطاع الخاص، ثم قام بعرض فيلمه التلفزيوني «تطور مدينة الرياض» في مدينة «فانكوفر» بكندا، وقد حاز على شهادة تقدير خاصة من منظمة الأمم المتحدة تكريماً له على هذه الإضاءة التي سلطها على تطور مدينة الرياض في فترات نموها الأولى. ثم قدم في عام 1982 فيلمه السينمائي الثاني، وهو فيلم «الإسلام جسر المستقبل»، الذي تغلغل من خلاله إلى داخل أفغانستان، لينقل من هناك صور الحرب. وفي عقد التسعينات من القرن الماضي، استطاع المحيسن أن يوثق بكاميرته السينمائية أكثر من ثلاثمائة ساعة من داخل الحدث، في أثناء الغزو العراقي للكويت، في 2 أغسطس (آب) 1990، حيث صنع فيلمه الثالث «الصدمة». ولم ينطلق عبد الله المحيسن في تلك الأفلام من نظرة محلية، بل شاملة. وهذا ما يفسر انطلاق أفلامه وانتشارها.
سينما الضرورة الملحة
حين نعود إلى مشاهدة أفلام المحيسن، بعد سنوات طويلة من إنجازها، نحس بأننا أمام «سينما الضرورة الملحة»، كما يسميها المؤلف، حيث بدا المحسين شبيهاً إلى حدٍ ما بأولئك السينمائيين اللبنانيين «الذين ما إن امتلكوا ناصية قدرتهم المهنية خلال سبعينات القرن العشرين تحديداً، حتى راحوا يحققون أفلاماً عن فلسطين (برهان علوية وجان شمعون) أو مصر (برهان علوية وجوسلين صعب)». لقد تناول الناقد السينمائي البارز إبراهيم العريس الأفلام التي أنتجها السينمائي عبد الله المحيسن بكل أمانة واحترافية، وقد عكس المضامين الفكرية والثقافية التي عَمِلَ المحيسن على ترجمتها في مجموعة الأعمال السينمائية التي أنجزها طيلة الفترة الماضية. يقول الكاتب إن «من حق عبد الله المحيسن أن يشعر بالرضا، بل بالسرور، في أيامنا هذه، فهو رائد لما يمكن أن نطلق عليه اسم البدايات الممكنة للصناعة السينمائية في المملكة العربية السعودية».
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط