سليم البيك
كما في فيلمه السابق «الصديقان»، حيث تتوه امرأة عاطفياً بين رجلين في علاقتين منفصلتين، وحيث يعرف الرجلان بعضهما بشكل مسبق، قدّم المخرج والممثل الفرنسي لوي غاريل فيلمه الجديد إنّما يتوه فيه – هذه المرة- الرجل بين امرأتين في علاقتين منفصلتين، وحيث تعرف الامرأتان بعضهما بشكل مسبق.
لم يبتعد لوي غاريل في فيلمه الجديد عن أجواء سابقه، وقد أخرجه وأدى دور البطولة فيه، وهو المعروف كممثل أكثر منه مخرجا، فـ«الرجل المخلص» هو فيلمه الروائي الطويل الثاني كمخرج، ويأتي بعد مشاركة في ما يزيد عن ثلاثين فيلما كممثل، منها أفلام من إخراج والده فيليب غاريل، من هذه الأفلام ما كتبنا مراجعات عنها في السنوات الأخيرة كـ«المريع» و«أشباح إسماعيل» و«ظل النساء» و«وجع الحصى» و«مَلكي» و«الصديقان» و«عاشقة اليوم الواحد».
في فيلمه المعروض في الصالات الفرنسية، الذي شارك في مهرجان تورنتو السينمائي الأخير، يظهر بوضوح تأثّر غاريل الابن بغاريل الأب، المتأثر بدوره «بالموجة الجديدة» الفرنسية، شكلاً ومضموناً، بل يمكن اعتبار فيليب غاريل امتداداً معاصراً للموجة الجديدة الفرنسية، وهو ما نراه في فيلم لوي غاريل (الابن) من المشاهد الأولى في فيلمه. أما الموضوعات فهي أقرب لتكون منحازة لبعض أفلام «الموجة الجديدة» وليس عمومها، بعيداً عن جان لوك غودار وكلود شابرول مثلاً، قريباً من فرانسوا تروفو، ومن إيريك رومير.
الفيلم المبني على فصول يروي كل منها واحدة من الشخصيات الثلاث، الشاب آبيل ويؤدي دوره لوي غاريل نفسه، وامرأتان: ماريان وإيف. يبدأ الفيلم بمنظر بانورامي لباريس، تنزل الكاميرا منه إلى نافذة بيت تجري فيه بعض الأحداث. فيه نتعرف على الشاب آبيل، وماريان التي تخبره بأنّها حامل إنما ليس منه، بل من صديقهما الذي، وتخبره لحظتها كذلك، أنها أقامت علاقة سرية معه، بموازاة علاقتها مع آبيل، امتدت لسنة، وأنّهما سيتزوجان قريباً.
كل ذلك يجري على لسان آبيل الذي قدّم لنا هذه المشاهد، أو لحظة الانفصال هذه بينه وبين ماريان، حيث يلم حقائبه ويخرج. لينتقل منها زمانياً إلى الحاضر، ويكمل القصة بعد انقطاعها، إذ كان لكل منهما حياته، يكملها من يوم عزاء الرجل الذي تزوجته ماريان وأنجبت ولداً منه (كما أخبرت آبيل، منه وليس من آبيل، وهو ما لا يبدو أكيداً). هناك يعزّيها ويسألها إن أرادت أن يوصلها إلى بيتها هي وابنها، فيبدآن علاقة جديدة، أو يستأنفان علاقتهما.
علاقته معها التي بدأت تتطور من حينها، أتت بموازاة علاقة غريبة بينه وبين ابنها الذي أخبره أن أمّه قتلت زوجها، بل سمّمته، وأنها نامت مع الطبيب الشرعي كي لا يكشف الأمر… أحاديث الولد هذه وردود فعل آبيل أضافت كوميديا خفيفة إلى الدراما التي نشاهدها في العلاقات الملتبسة التي يعيشها آبيل، منها، إضافة إلى ماريان، علاقته بشقيقة زوج ماريان «المغدور» وهي فتاة اسمها إيف.
إضافة لرواية كل من آبيل وماريان لعلاقتهما، كل من وجهة نظره وبصوته (بتقنية «الفويس أوفر»، من خلف الشاشة)، تبدأ إيف برواية بداية انجذابها لآبيل، منذ كانت طفلة، وكانت بالنسبة له الشقيقة الصغرى لصديقه في الجامعة، الصديق الذي سيصير زوج صديقته ماريان. من يوم العزاء لشقيقها تلاحظ اهتمام آبيل بماريان، فتبدأ بالغيرة والتدبير لعلاقة معه إذ لم يمنعها شيء من الذهاب إلى ماريان والطلب منها صراحة، وبشكل استفزازي، ترك آبيل لها، وإن لم تفعل فستكون الحرب، تقول، ثم تذهب إلى آبيل في مكان عمله لتخبره بأنّه يعجبها، مثيرة ما يشبه الفضيحة أمام زملائه.
هنا تتطور الحكاية بين الثلاثة، إذ تلتقي المتناقضات وتكثر الانعطافات والمفارقات، ويتنقّل آبيل بين الامرأتين، بحقائبه، من بيت واحدة إلى أخرى، تحديداً حين وضعته ماريان التي عاد ليعيش معها إثر موت زوجها/صديقه، أمام امتحان قائلة له بأن يذهب وينام مع إيف لترى هي إن كان سيعود إليها بعدها، وإن عاد فسيكون ذلك إثباتاً بأنه يحبها.
بدا الأمر له، بداية، كمزحة إنّما كانت ماريان جادة، ففعل ذلك وبقي لأيام عند إيف، لم يعد لماريان. لاحقاً ستعرف إيف أنه أتى إليها لهذا السبب وليس لأنه أراد، بل لأن ماريان طلبت منه ذلك، فتخرج حقائبه مجدداً من البيت ليعود إلى ماريان التي ستظن أخيراً أنّه عاد إليها لكونه يحبها، لا لأي سبب آخر!
حالات متعددة من سوء الفهم والتفسيرات المختلفة لما يحصل تتوارد في الحكاية التي تحوي عقداً متشابكة بين الشخصيات الثلاث، أمّا المحرّك لهذه العقد فهو الولد، ابن ماريان، بشخصيته الغريبة وسلوكه الأقرب للمحقق الذي يعرف ما يدور حوله ويعمل بصمت. في الفيلم (l’homme fidèle) كوميديا ذكية، حوارات مكثفة ومفارقات وتعقيدات في العلاقات بين الثلاثة ما جعل الفيلم جاذباً في جميع مَشاهده.
المصدر: القدس العربي