سوليوود ( القاهرة )
أحمد مروان
ولدت الفلسفة في الفضاء الفسيح، لكنها ظلت حبيسة نطاق النخبة، ولا توجد السينما إلا في صالات العرض المغلقة، لكنها تغادرها إلى ملايين المشاهدين، فهي فن الجماهير العريضة، هذا يعني أن الفلسفة والسينما لا تتحدثان اللغة نفسها، رغم أنهما قد يتناولان نفس الموضوع، فهل ثمة علاقة بينهما أم أنهما ضدان لا يلتقيان؟
القائلون بوجود وقوة تلك العلاقة يرون أن الفيلم السينمائي ليس مجرد شريط للصور المتحركة بهدف التسلية، بل رأوه يقدم قصة تحوي تصورا فلسفيا للعالم، ويرون أن المفاهيم لا توجد في النصوص فقط، فالصورة قد تعبر بإيجاز عما تعجز عنه الكلمة، لذلك عشق بعض الفلاسفة قاعات السينما، ورائدهم هو الفرنسي جيل دولوز الذي جمع بين الفلسفة والنقد السينمائي، وهو يرى أن السينما ذاتها ممارسة جديدة للصور وللسمات ينبغي على الفلسفة أن تنشئ لها نظرية باعتبارها ممارسة مفهومية.
وعلى دربه سار نفر من دارسي الفلسفة منهم الأكاديميان الأستراليان داميان كوكس، ومايكل ليفين، وقد ألفا كتابا مشتركا عنوانه “السينما والفلسفة.. ماذا تقدم إحداهما للأخرى؟” وقد نقلته إلى العربية المترجمة نيفين عبدالرسول، وأصدرته مؤسسة هنداوي للثقافة والفنون ( القاهرة 2018). المؤلفان يسلمان بقدرة السينما على سبر أغوار العديد من الموضوعات التي تعالجها الفلسفة. فالأفلام مثل الروايات تصور جوانب من العلاقات بين البشر، وتستكشفها فلسفيا مثل الحب والصداقة وغيرهما. والسينما في جانبها الروائي تمد الفلسفة بحالات تصلح للبحث، فالفرضيات التي تطرحها أو تلمح إليها عبر القصص تمد الفلاسفة بمواد للتقييم النقدي، كما أن الأفلام عموما تصلح للاستقصاء الفلسفي، لكن الأفلام عادة لا تصبح فلسفية بما تطرحه بل عندما تدفعنا ونحن نشاهدها للتأمل الفلسفي.
الحقيقة والوهم
يتناول الكتاب فيلم أرنولد شوارتسنجر “استعادة كاملة” كمثال للأفلام التي تعالج النزعة الشكوكية، الفيلم – وهو من إنتاج 1990 – تدور أحداثه في المستقبل، في عام 2048، حيث يتوق دوجلاس كويد للسفر إلى المريخ، بينما زوجته ترفض الفكرة نهائيا، لذلك يقبل كنوع من التعويض، عرضا من شركة تعده بزرع ذكريات داخل دماغه عن أجازة يقضيها في المريخ، يقتنع بأن الرحلة الافتراضية أفضل له حتى يتجنب اللحظات الشاقة أو المملة في الرحلة الحقيقية، ويختار القيام بمغامرة اسمها “سماء زرقاء فوق المريخ” حيث يلعب دور عميل سري في مهمة تستهدف إنقاذ الكوكب، وتتوج مهمته بالزواج من فتاة تزوره فعلا في أحلامه، وخلال عملية زرع الذكريات يحدث خطأ فادح، فيصرخ متهما من يزرعون الذكريات بالكشف عن هويته الحقيقية، فيتم تخديره والقاؤه في سيارة أجرة تعيده إلى منزله حيث يتعرض لمحاولة قتل بواسطة زوجته، وفجأة تصله حقيبة غامضة يستعين بها في الهرب إلى المريخ، حيث يقابل ميلينا المتمردة ضد حاكم المريخ المستبد، ويخوضان معا عدة مغامرات تؤدى إلى جعل الغلاف الجوي للمريخ مماثلا للغلاف الجوي للأرض، فيقع مرة أخرى “فريسة للحيرة على المستوى المعرفي، فهو لا يكاد يصدق ما يرى، ويسأل ميلينا ماذا لو كان ذلك كله مجرد حلم؟”،
ترد ميلينا – التي تعتقد اعتقادا جازما بأنهما فوق سطح المريخ – بقولها “إذا كنت تحلم فقبلني قبل أن تصحو”، هنا يبدو أنه وقع في مأزق تشككي، فالرحلة كلها لا نستطيع الجزم بحدوثها، كما لا نستطيع إثبات زيفها.
الروبوت عاشقا
يبحث فيلم ذكاء اصطناعي (إنتاج 2001)، في إمكانية خلق كائنات ذكية واعية تدرك ماذا تفعل ولماذا؟ غالبا ما تمتلىء أفلام الخيال العلمي بروبوتات واعية، لكن ما الجديد في هذا الفيلم؟ الجديد أنه لا يترك المشاهد يستنتج الحياة الداخلية للروبوت، فهو يقدم ديفيد ليس باعتباره روبوت واعيا فقط، بل لديه وعي عميق ومتكامل، يتيح له امتلاك مشاعر حقيقية، فتصبح مفارقة الفيلم هي “ديفيد يحب حبا حقيقيا، مع أن ديفيد نفسه ليس حقيقيا”.
يتعامل ديفيد مع مونيكا ويفترض إنه ابن صناعي لها، كأنها أم حقيقية له، لا يحتاج ديفيد إلى رعاية مونيكا كأم، فهو في النهاية روبوت وهي ليست مسئولة صيانة، لكنه يحتاج أن تهتم به، وأن تكون سعيدة معه، حب ديفيد لمونيكا يبدو كحب صبي طبيعي في الحادية عشرة لأمه، هو حنون وأناني، ضعيف وحساس ومتمركز حول ذاته، لكن هل يحبها حقا؟ يقول المؤلفان: يمنعنا سببان من الإجابة بنعم، فديفيد روبوت، فهل تعتبر مشاعره تجربه عاطفية من الأساس؟ فربما يكون حبه مجموعة من السلوكيات الروتينية التي تحاكي سلوك الحب، ربما يشبه الحب ظاهريا لكنه في حقيقته فراغ. هذا هو السبب الأول، والثاني يرجع إلى أن ديفيد مصمم من الأساس كي يتعلق عاطفيا برمز أبوي، فهل الحب الذي زرعه المصمم بداخله حب حقيقي؟ فمشاعر ديفيد تجاه مونيكا عملية مثبتة مسبقا بداخله، وبالتالي فحبه لها مصطنع، ويضرب المؤلفان مثالا بعقار السعادة، فهذا العقار إذا تم حقن شخص به ليبدو سعيدا، فإن سعادته لن تكون أصيلة.
تقرير الأقلية
تقرير الأقلية هو فيلم خيال علمي أخرجه ستيفن سبيلبرغ في عام 2002، وفيه يتنبأ العرافون لجون أندرتون بأنه سيقتل خلال 36 ساعة، رجلا لا يعرفه اسمه ليو كرو، يفكر في اقتفاء أثر الرجل، فهو يعتقد أنه قتل ابنه وزوجته وبالتالي لديه دافع لقتله، وهو في الفيلم يطلق عليه الرصاص دون أن يقتله، ويرى المؤلفان أن الفيلم الذي تدور أحداثه في عام 2054، حيث اكتشفت قدرة العرافين على معرفة الجرائم قبل وقوعها، بما يشمل تفاصيل مرئية للجريمة، منها أسماء الضحايا والمجرمين، فيتم إلقاء القبض على المجرمين المحتملين ويسجنون داخل “هالة”، وهي شكل من أشكال الحياة الجامدة الأشبه بالموت.
وهنا يثير المؤلفان قضيتين: الأولى هل يصح عقاب أشخاص على جرم لم يرتكب بعد؟ والثانية ترتبط بالعلاقة بين الإرادة الحرة والمسئولية الأخلاقية. فإذا كانت الجريمة قدر المجرم فما مدى مسئوليته الأخلاقية عنها؟ وإذا كانت جريمة القتل قد منعت فكيف يراها العرافون؟ العراف يرى ما سنفعله؟ فإذا لم نفعله لن يكون بوسعه رؤيته، وهنا يكمن التناقض ، وبالتالي تصبح عملية إعادة كتابة المستقبل لا تقل في عدم منطقيتها عن عملية إعادة كتابة الماضي، لكن هذه الأسس الميتافيزيقية الواهية للفيلم لا تحرمه من نزعته الفلسفية.
وبتوالي تحليل المؤلفين للأفلام عبر فصول الكتاب يتضح التأثير المتبادل بين السينما والفلسفة، وتفاعل الرؤى والافكار بينهما. فبالنظر إلى أعمال المخرجين الكبار، يتضح أن الفكرة الفلسفية نفسها تصنع جمالياتها عن طريق الربط بين الصورة والفكرة داخل ذهن المشاهد. (وكالة الصحافة العربية)
المصدر : موقع ميدل إيست اونلاين