الترفيه حق اجتماعي بعضه يتوسل بالثقافة كالفنون والموسيقى والترويح عن النفس بالبرامج المختلفة.. إلا أن الثقافة كحيز تتفاعل فيه حالات الرؤى والتوجهات سيكون ضرورة لدعم مشروع تحول، كما سيكون عيناً يبصر بها المجتمع في سياق تطور لا يمكن أن يحقق نجاحاً دون مشاركته..
هذا الانفتاح على الفرح وصناعة الترفيه، هذه الخطوات المتسارعة لاستعادة المجتمع لحالة طبيعية تمارس فيها الحياة دون شروط صارمة تجعلها متجهمة متوجسة تشيح بوجهها الجميل عن كل مناسبة استرخاء وتذوق وفرح.. سيحظى بقبول الكثيرين، وسيجد فيه كثيرون متنفساً طبيعياً مباحاً ومتاحاً يقتربون منه بلا وجل.
ليس جيلنا المستهدف من هذه الخطوات السريعة في طريق الترفيه وصناعة مناسباته ورعاية فعالياته.. إنه جيل شاب يتمدد وعيه على حالة مختلفة.. جيل سيطل من نافذة الوطن على صورة تأخذ بالتشكل والتكوين.. أما جيلنا نحن الذين نقترب من العقد السادس فقد يكون استقرت ملامحه على عناوين دهشة لم يعد يراها.
من يجري اليوم في عقد الخمسين إلى حافة الستين، فهو من جيل تكوّن وتشكل وتكاد تكون ملامحه متشابهة مع اختلاف هنا وهناك. إنما الشاهد أنه لن يكون حقل اختبار أو مشروعاً لنظام ذهني مختلف. وقد يطرب بعض أبناء هذا الجيل لهذه التطورات التي تحاول إعادة صياغة ثقافة مجتمع، خاصة أولئك الذين كان نفورهم الأكبر من فئة واسعة الانتشار سيطرت ذات يوم على الفضاء العام، ولم تبق لهم سوى التذمر والشكوى لبعضهم داخل غرف وصالونات مغلقة.
الثقافة فضاء واسع، والترفيه فعاليات تطال الفن بأنواعه، وتحلق في أجواء الذائقة الاجتماعية، ومن حق المجتمع أن يصنع عالم الترفيه الذي يلبي احتياجاته ويناجي موروثه ويطرب أذواقه ويشارك في صخبه وألوانه، إلا أن صناعة الثقافة باعتبارها صناعة للوعي أمر آخر.
قبل أسابيع قليلة أعلن عن تشكيل مجلس إدارة الهيئة العامة للثقافة، والهيئة بحد ذاتها إنجاز جيد، يجعل التركيز على الشأن الثقافي ممكناً، ويعيد بناء المشروع الثقافي الوطني على نحو يستجيب لتحولات لا بد من مقاربتها.. إلا أن كل هذا لا يمنع من طرح المزيد من التساؤلات حول مشروع الهيئة وأبعاده بما يتجاوز رعاية الفنون، والإشراف على دور السينما، وإقامة الحفلات الموسيقية.. وحتى تنظيم معرض للكتاب.
شخصياً لا أستطيع فهم الثقافة سوى أنها مشروع صناعة الإنسان وعياً وقيماً وحضوراً، والمشروع الثقافي إذا خلا من هذه المهمة سيكون مجرد مشروع ترفيهي، لن تخرج ملامحه عن قوالب جاهزة، يمكن نقلها بسرعة من مصادرها خلال أسابيع ووضعها أمام الجمهور خلال أيام.
أعتقد أن أهم هدف يجب أن يكون ذا حضور في مشروع الهيئة الوطنية للثقافة، المساهمة في صناعة وعي جيل، وعي يحصنه من التهافت والسقوط، ويعلي شأن القيم الإنسانية في عقله وتكوينه، وعي يتسرب إليه من فضاء المعرفة ومقاربة الأفكار.. وكل وسائل التلقي والتفاعل من مسرح جاد ومنتديات حوار وقراءات ملهمة لجيل جديد، وعي غير قابل للاختراق من منظومة قد تستهدف حياته وهويته وعقله.. وعي فاحص قلق لا يسلم بسهولة، ويملك حساً عقلياً يجعل محاكمة الأفكار وفحصها والتوقف عندها جزءاً أصيلاً في شخصيته، وهو ينقل بصره من الماضي إلى فهم الحاضر وإدراك تطوراته وحتى استشراف الآتي وتحولاته.
إذا أردت إنساناً فاعلاً في خضم مشروع تحول كبير، فأنت بحاجة إلى توسيع دائرة الوعي، حتى يلقى التفاعل مع ذلك المشروع سواء من ناحية الدعم أو التوجيه أو التعديل أو المواءمة في مسار يجب ألا يتعرض للتوقف أو النكوص.
وصناعة الوعي يضرها برامج التلقين، أو التفكير نيابة عن الآخرين. وهي إعلان – أي الوعي – عن حالة قلق لا سكون وخمود، أو ارتياب وإعراض. الوعي محاكمة للرؤى، ومناقشة وتحليل للأفكار، وبناء تصور حول الحالة المستهدفة، ثم تأتي الوسائل المناسبة لوضعها في دائرة التفاعل مع الجمهور.
ولا يعتقد أحد أن هذه دعوة يوتوبية لبناء مجتمع فاضل من المثقفين والمفكرين.. فلن يحدث هذا أصلاً مهما كانت الوسائل متاحة، لكن سيكون حتماً للأفكار ومناقشتها دور في توجيه الرأي العام نحو خيارات أوسع في مشروع وطني يستهدف التغيير للأفضل على حامل المعرفة وحامل المسؤولية وحامل الحق الإنساني في تمكين الفرد والمجتمع والأمة من الإسهام في مشروع التغيير المستهدف. التفاعل الاجتماعي الضرورة الأولى لدعم مشروع التغيير مهما كانت مجالاته وقضاياه ووسائله، وسيكون بناء قناعة المجتمع وإيمانه بقيمة التغيير مؤثراً كبيراً في سياق هذا المشروع، كما أن إعراضه وسلبيته ستكون مؤثراً كبيراً قد يدفع لتراجعه.
والثقافة من حيث هي صناعة للوعي وحيازة فضاء تمنع الرؤى والأفكار التفاعل والتطور كفيل بشد المجتمع إلى جدل منتج تتراكم فيه قناعاته مع المزيد من التصحيح والتعديل في مسار التغيير تحقيقاً للأفضل تجربة ومعايشة لا تصوراً نظرياً فقط..
الترفيه حق اجتماعي بعضه يتوسل بالثقافة كالفنون والموسيقى والترويح عن النفس بالبرامج المختلفة، إلا أن الثقافة كحيز تتفاعل فيه حالات الرؤى والتوجهات سيكون ضرورة لدعم مشروع تحول، كما سيكون عيناً يبصر بها المجتمع في سياق تطور لا يمكن أن يحقق نجاحاً دون مشاركته.
المصدر: جريدة الرياض