كوليت بهنا
اعتادت مصر عبر ريادتها الفنية العريقة وامتلاكها لكل مقومات نجاح الصناعة والعرض السينمائي في العالم العربي، على استضافة ملتقيات أو مهرجانات سينمائية ذات صبغة تخصصية تشارك فيها أفلام مصرية وعربية وعالمية، مثل سينما أفلام الطفل أو سينما المرأة أو أفلام البيئة، التي شاركت لمرتين في لجنة تحكيمها، وشكلت مفاجأة مدهشة بطرحها لمواضيع بيئية جديدة معتّم عليها.
وتعتبر هذه الملتقيات أو المهرجانات إضافة ثقافية متميزة للجمهور ولأصحاب التخصص بوقت واحد، حيث تركز هذه الأفلام، بقالب درامي ـ تخصصي على مواضيع هامة أو طارئة، قد تضيع أهميتها مع مرور الزمن وعدم الالتفات إليها وسط الكم الكبير من الأفلام المتنوعة التي تطرح سنويا في أسواق العالم.
أحدث هذه الملتقيات السينمائية التخصصية، مهرجان “MEDFEST” الذي استضافته القاهرة قبل أيام وجمع أفلاما من 33 دولة ركزت على مواضيع طبية تتناول المشاكل النفسية والجسدية بقوالب درامية، أو “التعليم بالإمتاع” كما عبّر مؤسس الملتقى الطبيب مينا النجار، بحيث يمكن للمشاهد تلقي العديد من المعلومات الطبية الصحيحة وسبل الوقاية والعلاج أو تحسين المزاج النفسي للمتلقي، عبر الحكاية الدرامية التي تصاغ مفرداتها بشكل غير مباشر أحيانا، أو بشكل مباشر في كثير من الأحيان، دون أن تبدو هذه المباشرة فجة أو مقحمة في النسيج العام، مثل إسعاف بعض حالات مرضى الصرع، أو النوبات القلبية أو غيرها.
وأتذكر في السياق فيلم “الموت شابا ـ Dying young” المنتج عام 1991 من بطولة جوليا روبرتس التي تعمل كممرضة مساعدة لمريض مصاب بسرطان الدم تقع في حبه رغم أيامه المعدودة، وتكمن أهمية هذا الفيلم ليس بتركيزه على بعض التفاصيل الدقيقة التي يعيشها مرضى السرطانات فقط، بل على معاناة “جوليا روبرتس” التي تظهر في الفيلم كامرأة شرهة للتدخين، وكيفية إقلاعها عنه وهي على تماس مباشر مع مريض بالسرطان، الذي يعتبر تدخين السجائر سبب رئيسي من أسبابه، وإقلاع العديد من المشاهدين عن التدخين بعد مشاهدة الفيلم، كما ذكر في حينه.
مزج مواضيع متخصصة ببعض الفنون، توجه عالمي غير حديث زمنيا، ارتبط في كل زمن مع الوسيط الفني الحامل له والمتوفر في حينه؛ وفي عصرنا الحديث استعملت لهذا الغرض، بعض الفنون البصرية المتطورة مثل السينما والتلفزيون والفيديو أو وسائل التواصل الاجتماعي، كمنصات فنية واعلامية أو حوامل إبداعية سلسة وسريعة التأثير والانتشار.
لكن الريادة الحقيقية لهذا التوجه تعود إلى آلاف السنين، تم التعبير عنها عبر التعافي بالموسيقى أو الرقص، أو عبر المسرح، وإن بشكل ضئيل، والفنون التشكيلية مثل الرسم والنحت اللذين تفوقت بهما أوروبا، وتم من خلال بعض الأعمال التشكيلية التاريخية تشخيص أمراض بعض الشخصيات المرسومة في تلك اللوحات، أو اكتشاف مرض الرسام ذاته وحالته النفسية أو إعاقاته الجسدية، إضافة إلى الرسم على جدران الكهوف والمعابد الذي استعملته معظم الشعوب القديمة وأبرزها الفراعنة والصينيون والهنود الحمر، واكتُشفت من خلال هذا الفن البدائي تفاصيل كثيرة تتعلق بالحياة اليومية وأبرزها العلوم الطبية والأمراض، التي حظيت بالاهتمام الأكبر بصفتها الهاجس الذي يؤرق البشرية في كل زمان ومكان.
يبقى الارتباط الأبرز تاريخيا في هذا المضمار، هو التمازج الملفت والمستمر بين عالمي الطب والأدب بشكل خاص، حيث تطول قائمة أسماء الأطباء الأدباء، أي الأطباء الذين استهواهم عالم الأدب (شعر ـ قصة ـ رواية)، وأنتجوا أعمالا متميزة أو خالدة، فأبدعوا في التخصصين معا، ومنهم: “ابن زهر، ابن البيطار، الرازي، الزهراوي، ابن سينا، جون لوك، أحمد عروة، صبري القباني، عبد الرحمن الشهبندر، محمد المخزنجي، نوال السعداوي، يوسف إدريس، عبد السلام العجيلي، خليل مشاقة، خليل النعيمي، ابراهيم ناجي، التيجاني الماحي، شبلي شميل، نزار بني المرجة، هيفاء البيطار، أمير تاج السر، علاء الأسواني” وغيرهم. شكل هؤلاء الأطباء بمجموعهم ظاهرة طبية ـ أدبية، نبيلة في شقّيها، تستحق الكثير من الدراسات للتعمق فيها، وإن كان تفسيرها جليّ للغاية وهو أن جوهر الطب والفنون أو الطب والأدب، يُعنَيان معا بالحياة.
فإن سلمنا ـ بأسف ـ لمتغيرات العصر وتراجع القراءة واهتمام الناس بفنون الآداب، في عالمنا العربي بشكل خاص، لا بأس أن يتحول الاتكال على الفنون البصرية العصرية، وفي مقدمها السينما، لتكون البديل الأمثل كمنصة ووسيط فني لنقل الفائدة والاستشفاء بالفنون وتكريس الملتقيات السينمائية التخصصية وتشجيع استمراريتها ودعمها مثل مهرجان “MEDFEST” آنف الذكر، ومنحها لقب “الدكتورة سينما” لمقدرتها على استيعاب جميع الفنون والتخصصات، ولسمعتها العريقة بتحقيق البهجة و”التعليم بالإمتاع”.
المصدر: الحرة