رامي عبدالرازق
في عام 1995 قدم المخرج المصري الراحل محمد كامل القليوبي «1943-2017» فيلمه الروائي الطويل الثاني البحر بيضحك ليه، من بطولة محمود عبدالعزيز ونهلة سلامة ومحمد لطفي، وكان قد قدم قبلها بعامين فقط فيلمه الروائي الأول ثلاثة على الطريق من بطولة محمود عبدالعزيز أيضًا.
قدم القليوبي الفيلم على اعتبار أنه من تأليفه وإخراجه، دون أي إشارة للنص الأدبي الذي اعتمد عليه في صياغة المعالجة «الإسكندرانية» لشخصية الموظف الأربعيني الطيب الذي قرر في لحظة ما أن يكسر كل القوالب الحياتية الجامدة في سياقه الوجودي، ويُعيد إنتاج ذاته بصورة تجعله أكثر سعادةً ورضًا عن نفسه والعالم.
هذا الموظف هو نفسه جواكين سوايرس أو كينكاس هدير الماء الشخصية الأشهر في تاريخ أدب أمريكا اللاتينية، وبطل رواية البرازيلي ابن مدينة باهيا صاحب نوبل؛ جورج أمادو «ميتتان لرجل واحد».
صدرت الرواية، التي ترجمت إلى خمسين لغة، لأول مرة عام 1959 وقدمت إلى السينما في أكثر من سياق وبأكثر من معالجة، لكن معظمها استقرَّ تحت قبعة الواقعية السحرية التي كان أمادو واحدًا من فرسان معبدها العظيم.
وإلى جانب تجربة القليوبي في استلهام الرواية، رغم عدم الإشارة إلى ذلك، قدمت السينما المصرية تجربة ثانية عنها، مشيرة إلى الرواية بوضوح، وهي فيلم «جنة الشياطين» من كتابة مصطفى ذكري وإخراج الراحل أسامة فوزي وإنتاج وتمثيل محمود حميدة عام 1999.
بيد أنَّ تجربة القليوبي وإن لم تُصرِّحْ بالأصل الأدبي تخلع قبعة الواقعية السحرية، وتعيد بناء الزمن بصورة خطية متجانسة لا يقطعها سوى شطحات من الأحلام في الفصل الاول من الفيلم، أي إنها تنتمي في نوعها إلى الميلودراما الاجتماعية ذات البعد الفلسفي والحضور الإنساني المتمثل في النماذج التي أعاد السيناريو إنتاجها انطلاقًا من عوالم باهيا وهدير الماء.
إسالة الزمن
من العناصر المعروفة ضمن مبادئ الاقتباس السينمائي هو ما يمكن أن نطلق عليه إسالة الزمن، بمعنى تحويل زمن الرواية إلى مادة سائلة وإعادة صبها في القالب السردي الذي يرى كاتب السيناريو أنه الأنسب لعرض رؤيته أو معالجته للنص الأدبي.
يتكون الزمن في الدراما من عدة عناصر فهناك زمن الأحداث أي تاريخ وقوعها «السنة، الشهر، اليوم» وهناك المدة التي تستغرقها أحداث الرواية، الفيلم أي الدورة الزمنية للأفعال والخطوط والصراع.
وإسالة الزمن تعني أن يتحرر السيناريو من النمط الزمني الذي تنتهجه الرواية وأن يعيد ترتيب الأحداث وفقًا لرؤيته أو بعثرتها أو القفز فيما بينها، كما يتحرر الكاتب في الفيلم من الدورة الزمنية التي تستغرقها أحداث الرواية فيُمكن لرواية تدور في ليلة أن يمط السيناريو زمنها لتدور في أسبوع أو شهر، والعكس بالطبع.
تدور الأحداث في رواية أمادو وقت نشرها أي في الخمسينيات تقريبًا بينما تدور أحداث الفيلم وقت عرضه أي في سنوات التسعينيات، وبينما تستغرق رواية أمادو ليلة واحدة على مستوى الأحداث، ومجموعة من النقاط الزمنية المتناثرة على مستوى الذكريات، يستغرق فيلم القليوبي سنة كامل من عمر الشخصية؛ فيبدأ من يوم عيد ميلاد حسين بطل الفيلم وينتهي في عيد ميلاده التالي بعد عام كامل من قراره بالتخلي عن حياته السابقة أو موته الاختياري.
تدور رواية أمادو في باهيا المدينة الساحلية الساحرة والتي تقابلها في الفيلم مدينة الإسكندرية وبطل رواية أمادو هو موظف في مصلحة الضرائب يدعى جواكين متزوج ولديه أبنة وأخت وزوج أخت وحماة جامدةُ الوجه، ولكنه ذات يوم يقرر أن يتخلى عن الوظيفة واسم العائلة والزوجة والابنة ويذهب للعيش ضمن مجموعة من الصعاليك والمشردين والعاهرات في شرايين باهيا السفلية، لتصح هذه هي ميتته الأولى، فيشرب الخمر بلا توقف ويلعب القمار ويضاجع كل جسد أنثوي حي تطاله أعضاؤه إلى أن يموت ذات يوم بوجه مبتسم ورضا تام عن حياته وعالمه، ولكن مجموعة الصعاليك التي توليه ملكًا عليها ترفض أن تعترف بموته وتصحبه في رحلة أخيرة في مملكته السفلية ليحتفلوا بموته ساخرين من كونه قد مات بالأساس إلى أن تنتهي رحلتهم القصيرة من كوخه الفقير إلى قارب أحد أصدقائه ليسكروا جميعًا وتنهض عاصفة فيراه الجميع وهم في شك من يقظتهم وهو يلوح لهم ويختار البحر قبرًا مفتوحًا له لتتحقق ميتته الثانية.
يبدأ القليوبي زمنيًّا من نقطة بعيدة نسبيًّا، حيث حسين وهو لا يزال جواكين، الموظف الملتزم، كامل الطيبة والخضوع للنظام الوظيفي والعائلي، يعيش مع زوجته وأخته العانس بلا أطفال، وليس لديه سوى شلة من الأصدقاء الذين يخضعون هم أيضًا إلى تقشف الأحلام وجفاف الشغف.
ولكن بذرة التمرد التي في داخل حسين تتبلور من خلال مجموعة من الأحلام التي ينفس فيها لاوعيه عن رغباته المكبوتة في التحرر من هذا الواقع المتصلب، فتارة يرى زملاءه وهم يلومونه على ارتداء البنطلون في العمل بينما جميعهم يسيرون دونه، وتارة يلومونه على ترك العمل والنزول معهم للبحر، إلى أن ينهض ذات يوم ويقرر أن يصفع الجميع بشكل متوالٍ، بداية من زوجته وأخته مرورًا بزملائه ومديره وصولًا إلى أصدقائه واحدًا واحدًا.
هنا يتحول حسين إلى سحس وهو المقابل السينمائي لكيناكاس هدير الماء. ولما كانت لدى جواكين كما يرد في الرواية رغبة وهو صغير أن ينضم إلى السيرك -تلك الرغبة التي وئدت بسبب علقة ساخنة أخذها حين أعلن عنها- يستثمر القليوبي هذه الرغبة في أن يجعل حسين ينضم إلى مجموعة من لاعبي السيرك الشعبيين «نهلة سلامة ومحمد لطفي» ليصح واحدًا من حواة الشارع، وبدلًا من الكوخ القشي لكيناكاس يستأجر غرفة تطل على البحر من أعلى نقطة كرغبة في الطيران والانطلاق إلى الأفق مثل الطائرات الورقية التي تشكل مجازًا واضحًا ضمن السياقات البصرية للفيلم.
زيزي والطائر الجميل
في مقابل شخصيات الطائر الجميل والزنجي مدهون الشعر والعريف رشيق الحركة وهي أسماء شلة كيناكاس، بعد أن مات جواكين الموظف وصار كينكاس هدير الماء السكير، ثمة شخصيات «سيد بُص» و«سعيد» و«عم إسماعيل»، وبالمناسبة فإن «بُص» في اللهجة العامية المصرية تعني فعل الأمر انظُر، حيث يعمل سيد في نفس مهنة الطائر الجميل، وهي الإعلان بالصوت والإشارة عن البضائع لصالح طاولات التجار الصغار في الشارع، فلا يكتفي القليوبي في المعالجة بنقل المهنة ولكنه يحولها كذلك إلى اسم يرتبط بالشخصية في الفيلم -قدمها نجاح الموجي في واحد من أفضل أدواره السينمائية وذلك بعد النجاح الذي سبق له أن حققه مع محمود عبد العزيز في فيلم الكيت كات لداوود عبد السيد.
أما على مستوى عالم العاهرات الذي يصبح كيناكاس واحدًا من كواكبه، فيوازيه في الفيلم عالم مماثل لمجموعة من فتيات الليل على رأسهم زيزي -التي تقابل شخصية كيتاريا جاحظة العينين- وبدلًا من أن يضاجعهن سحس جميعًا كما كان يفعل كيناكاس فإن النزعة الأخلاقية لدى الشخصية السينمائية -هي نزعة مثالية في مقابل النزعة الفوضوية العارمة لدى الشخصية الأدبية- هذه النزعة تدفعه للزواج من العاهرات، الأربعة، وعتقهن من عبودية المهنة السقيمة بدلًا من تركهن فريسة لذئاب الطريق كل مساء.
نعيمة من النعمة
إذا كان تحول حسين إلى سحس هو الميتة الأولى كما تحول جواكين إلى كيناكاس فأين هي الميتة الثانية؟
تأتي الميتة الثانية بصورة مغايرة في الفيلم عن الرواية، فسحس يصاب بالدوار ويغمى عليه بعد أن يعرف بنبأ تعرض زوجته للإجهاض، أجل لقد تزوج سحس من نعيمة -ودلالة الاسم واضحة- لاعبة السيرك الشعبي وهي شخصية مضافة ضمن المعالجة السينمائية.
هذه الإغماءة تجعل المحيطين به يظنون أنه مات ويتم إبلاغ شقيق زوجته الضابط بذلك، فيقرر أن يصنع له جنازة ولكن سحس يستيقظ من إغماءاته، فيتمادى الضابط الراغب في التخلص من السيرة الشوارعية لزوج أخته المترد فيقيم له جنازة بالفعل، لكنها جنازة بلا جثة، وحين يمر النعش من أمام سحس الجالس بالشارع يتساءل عن صاحب الجنازة فلا يجيبه أحد، ويفر الجميع ظنًّا منهم أن الميت استيقظ ولا يجد حسين من يشيع جنازته المجازية سوى هو نفسه، حيث يقول لشلته: «أنا مت النهارده ومشيت في جنازتي» هذه هي الميتة الثانية إذن، التي يولد بها حسين مرة أخرى، لكنه أكثر تحررًا من ماضيه ومن تخبطات سحس وعشوائية حركته في الحياة بعد أن ذاق الموت مرتين بمعناه الأكثر عُمقًا وقربًا من الحياة، الموت كشكل من أشكال اكتشاف الحياة، بدلًا من الحياة الميتة التي كان يحياها في زواج كئيب ووظيفة عقيمة وأصدقاء يعلو وجوههم صدأ الملل.
وينتهي الفيلم كما الرواية على سطح قارب في البحر، ولكن بدلًا من أن تقفز جثة كيناكاس أمام مجموعة السكارى يجري الاحتفال بعودة سحس للحياة، بعد أن أفاق من غيبوبته وقرر ألا يصبح البحر قبره ولكن جناحيه.