د. أشرف راجح
في خاتمة الفيلم الناجح «ولاد رزق 3» أو «القاضية» حين يظهر النجم «كريم عبدالعزيز» بكاريزما تهز صالة العرض باعتباره «سليمان الغول» الحقيقي الذي لا يراه حي إلا وقد صار في عداد الأموات، يفكر المشاهد في أمرين: أولهما أنها دلالة على نهاية رحلة حياة هؤلاء «الأولاد» الذين ارتبط بهم على مر الثلاثية الناجحة التي جاء جزؤها الثالث أكثر تفجرًا بالقبول الجماهيري. وثانيهما أنه تمهيد لجزء رابع قد يلعب به هذا النجم دورًا محوريًا في مواجهة «أسود الأرض» كما لقبوا في الجزء الثاني أو حتى بالتحالف معهم، مع إمكانية أن يكون هو أيضًا مدعٍ، ليكون هناك «سليمان» آخر مختفٍ وراء الستار. والعودة إلى الفيلم من المؤكد أنها ستسهم في الإجابة عن السؤال.
تنتمي سلسلة أفلام «ولاد رزق» إلى نوع فيلمي فرعي من أفلام الحركة والمغامرات وهو نوع أفلام السرقة «Heist» تلك الأفلام التي تتضمن عملية سرقة كبيرة لشيء ثمين جدًا تقوم بها مجموعة محببة من اللصوص بسماتهم الجذابة، ودائمًا المسروق يكون شخصية أو مؤسسة بغيضة تجتذب نفور الجمهور وتزيد من تعاطف المشاهدين مع اللصوص الظرفاء. وبالطبع، تفترض تلك النوعية للقيام بالمهمة وجود عدد من الأبطال متنوعي المهارات والسمات تستطيع كل شخصية منهم أن تخلق حالة من التعاطف أو حتى التوحد معها، بحيث يجد كل مشاهد نفسه في شخصية أو أكثر منهم. والأمثلة في السينما الأميركية أجل من أن تُحصى من سلسلة «أوشن 11 و12 ثم 8»، أو «المهمة الإيطالية»، أو «السريع والغاضب» بأجزائه التي تجاوزت العشرة، وصولًا في السينما المصرية إلى «مقلب حرامية» على سبيل المثال، وغيرها الكثير. ويعتمد فيلم «ولاد رزق 3» على الإبهار في كل العناصر سواء في سرد القصة والتواءاتها المفاجئة وتحولاتها الصادمة، أو التشويق والتوتر الناتج عنه في تنفيذ المهمة، إلى جانب مشاهد الحركة والمطاردات والصراعات الضخمة الخالية من الوحشية أو الدموية المفرطة، برفقة لمسات محسوبة من الكوميديا الساخرة في بعض المواضع، إلى جانب عدد طيب لا بأس به من الجميلات.
لقد جاءت السلسلة المبنية بنجاح شديدة الأمانة مع متطلبات النوعية من ناحية، وكذلك مع القالب السردي الخاص بها الذي اختطته لنفسها منذ الجزء الأول بمهارة، وهو ما يمكن أن نلقبه بقالب: «الراوي المعترف». دائمًا الأفلام تبدأ برغبة أحد الأبطال أو بعضهم في الانصراف عن «السكة الشمال»، ولكن نداء الواجب يقودهم إلى التجمع والاحتشاد في عملية «أخيرة»، تنطلق من نقطة متقدمة حيث يسقط أحد أفراد المجموعة أسيرًا في قبضة القوى المناوئة ويبدأ في سرد القصة استرجاعًا في صورة اعتراف تحت وطأة التعذيب. شهدنا هذا الأمر في الجزء الأول والثاني من خلال اعترافات «رجب رزق» و«عاطف سرحان». أما في الجزء الثالث، فجاءت الاعترافات هذه المرة على لسان البطل الأول «رضا رزق» الذي يلعب دوره النجم «أحمد عز». ورغم المخاطر المحتملة من أن هذه الطريقة الاسترجاعية في سرد الأحداث قد تضعف من شدة التشويق الذي يعايشه المتلقي في متابعة الأحداث باعتبارها تبتعد به درجة عن متابعة ما يحدث على الشاشة على أنه يحدث «الآن حالًا فورًا»، إلى كونها قصة قد حدثت بالفعل ويتم كشف جوانبها؛ فإن هذه الطريقة قد حققت مبتغاها بصورة فاعلة، حيث أتاحت التحكم إخفاء وكشفًا للمعلومات والتحولات والانقلابات، بحيث يسير المشاهد بتوقعاته منجذبًا للتعرف على حقيقة هذه التوقعات بالنسبة إلى مسار القصة والأحداث. وبالطبع تفوق «ولاد رزق 3» في هذا الأمر تفوقًا ملحوظًا، حيث تجاوز مجرد أن عملية الاعتراف في الجزء الأول والثاني اعتمدت على اللبس في هوية المعترف ودوره في الأحداث لتحقيق الخدعة، إلى أن تكون عملية الاعتراف ذاتها بأكملها هي أساس الخدعة المطلوبة لإتمام المهمة الرئيسية، من خلال خلق شخصية «سليمان الغول» المزيف التي أداها بتميز «أحمد الرافعي».
وقد برع الفيلم في استيفاء مواصفات النوع بصورة مبهرة سواء من حيث كتيبة النجوم المختارة بعناية في كل الأدوار، وإن برز من بينهم بتوهج خاص «علي صبحي» في دور «الكوري» الذي احتل وحده المساحة الفيلمية التي كان يشغلها الطرفان الأبسط والأكثر إضحاكًا في المجموعة «رجب وعاطف» في الجزأين السابقين، أو مشاهد الحركة المنفذة بإمكانات عالمية أتاحت تقديم المناطق السياحية المبهرة التي تتمتع بها العاصمة «الرياض»، واستغلت حدثًا عالميًا كمباراة الملاكمة لنجم الملاكمة «تايسون فيوري» الذي صار مشاركًا كذلك في الأحداث الدرامية للفيلم. وهي الجوانب التي تبلورت بفضل المظلة الإنتاجية الداعمة من الجهات المسؤولة بالمملكة العربية السعودية بصورة حققت الفائدة المرجوة منها تمامًا.
ويوضح الناقد ريك ألتمان أن مصطلح النوع السينمائي له معانٍ عديدة وفوائد متمايزة لدى الأطراف المختلفة، فيمكنه أن يقدم بناء لكتَّاب السيناريو يضعون فيه أفكارهم ومشاهدهم وحواراتهم بشكل ملائم داخل إطار عملي محدد الأبعاد، أو مخطط أوليٍّ للمنتجين الذين يختارون القصص والنجوم ومواقع الأحداث طبقًا لصيغة مستقرة ومناسبة لمتطلباتهم، أو تصنيف تسويقي بالنسبة للموزعين وأصحاب دور العرض الذين ربَّما يسوقون منتجاتهم كأفلام حركية أو درامية أو كوميدية، وعقد بالنسبة للجمهور الذي يتوقع نوعًا معينًا من تجربة المشاهدة السينمائية. وهو ما يحققه انتماء المتلقي للنوع الفيلمي والتجانس مع معطياته توقعًا وتفاعلًا من طمأنينة لدى صناع السينما التجارية، نتيجة لوجود عنصر “الألفة” لدرجة ما بين العمل السينمائي والجمهور المستهدف، رغم أنه يعد على المستوى السينمائي بصورة ما من النقاط الإشكالية التي تحاول الأعمال السينمائية أن تتحرك بين حدودها ببراعة حتى تتوازن؛ أي بين التمتع بألفة النوع دون الوقوع في رتابة التوقع، والاحتفاظ بدهشة تقديم المغاير دون تغريب يفصل الصلة مع المشاهد. وهو ما عبر عنه الناقد روبرت ورشو قائلًا: «إن التنويع ضروري بكل تأكيد حتى لا يصير النمط معقمًا «بمعنى معلبًا أو محفوظًا». إننا لا نريد أن نشاهد نفس الأفلام مرارًا وتكرارًا، فقط نفس الشكل». ومن هذا المنطلق، لاحظنا نمو النوع وتطوره باعتباره أشبه بصيحة أو «موضة» تحتاج في خلال استقرارها مرحليًا إلى الحفاظ على استراتيجية «تسويقية» ثابتة تقترن بعدد من الأساسيات تجعل «المنتج» متعارفًا عليه من قبل «المستهلك»، وتقابلها كل فترة تنويعات تنتزع النمط من السقوط في دائرة التعقيم أو التعليب أو الملل مجددًا. لتظل «ملاعيب علي الزيبق» في الثقافة العربية أو «مغامرات روبن هود» في الثقافة الغربية، مادة ثرية لتقديم الأعمال الفنية التي تتعلق الأفئدة بها وبمصائر أبطالها، كما تعلق المشاهدون لمرة متجددة بـ«ولاد رزق» وهم يقدمون عرضهم المشوق في ربوع المملكة العربية السعودية المتلألئة بأضواء التقدم والحداثة.