تغريد العتيبي
من تفرّعات أصول القوطية هو توجهات الكتابة فيها من استخدام أسلوب الخوف أو الرعب، مما كتبت فيه آن رادكليف إحدى أوائل الروائيات في القوطية والقارئات في الثقافة مقالًا تدعو فيه إلى التوجه الأول في الكتابة القوطية، لما فيه من خوف وإثارة دون تعزيز حس الاشمئزاز من الدموية المجسدة في الرعب، بل يسعى للتخاطب مع أحاسيس أعلى في الإدراك عوضًا عن الحواس الأولية وغيرها، فقد دعت أيضًا إلى التزام الخوف بمغزى هادف، حتى لو كان يُميز ضعفنا وصغرنا كذوات. ولكن الأهم، فمعظم أشباح الخوف قد تُفسَّر بأنها صدمات اجتماعية ونفسية وغيرها. فكل ما خطته من نساء تعرضن لخوف من خوارق الطبيعة ما هن إلا نساء واجهن قمع ذكور وأسياد سادية وحالات تعذيب وحرمان وغيره، فما يرينه ما هُو إلا انعكاسات أو عودة تلك الشخوص المخيفة من الموت.
بالرغم من الانتقادات التي واجهها هذا الأسلوب آنذاك، وفي الوقت المعاصر، لزعمه أن الخوف يجب أن يحمل تفسيرات، ويكون ذا غاية، فإنّه في خضم الحركات النسوية أثار عديدًا من التساؤلات التي تطورت لاحقًا، وتداخلات مع النظرية النسوية في قراءة نساء القوطية والأعمال القوطية، التي كُتِبت من قبل النساء أو التي تناقشهن وقضاياهن. نذكر مثلًا نمطية اجتاحت القوطية الكلاسيكية كالنساء الشابات «المسكينات» في خطر مقحم، اللائي لا يستطعن البتة مساعدة أنفسهن أو التفكير قليلًا، فيحتجن إلى فارس مقدام أو أمير شهم شجاع. كل تلك النمطيات بتصويرات مختلفة سواء عصرية أو في وقتها تسكن القلاع، لا تزال تضع المرأة في صورة مقام أقل وكأنما مآسيها وألمها ومعاناتها وصدماتها هي صورة قوطية تحكي وترسم كجمالية وليس كقضية.
لكن القوطية النسوية أمر أكثر تعقيدًا فهو لا يُعنى فقط بتصوير النساء إنما كتابات النساء أيضًا، مثلًا الأساليب الأدبية والمخاوف والصدمات والإرث الأدبي، ومن أهمها ماري شيلي مؤلفة الرواية الشهيرة «فرانكنشتاين، أو بروميثيوس الحديث» عام 1818 في مطلع قرن ازدهار المنتجات والثقافة القوطية. لعل الجدير بالذكر أنها ابنة الناشطة الثورية آنذاك في النسوية ماري ولستنكرافت مؤلفة كتاب «دفاعًا عن حقوق المرأة». من هنا يظهر ارتباط النساء بتصويرات الرعب والخوف سواء كعناصر نصية تدفع السردية وتعزز الذكورية للأبطال أو كشخصيات رئيسة معقدة لها تراكيبها ودوافعها، في سرديات تناقش قضاياها أو مخاوفها وصدماتها.
على غرار ذلك وفي نهاية القرن التاسع عشر، ظهرت روايات مليئة بالثنائيات والتضادات، ومشكلات الهوية والانفصام الشخصي، كالطبيب جيكل والسيد هايد. لكن برزت أيضًا في انحطاط وسقوط العصر الفكتوري والثقافة الفكتورية المحافظة أعمال تتسم بوصف ما عُرِف لاحقًا بالـمرأة الساحقة أو القاضية، ووُصِف ذلك بأنه نتاج تخوُّف المؤلفين والمجتمع المحافظ من اجتياح استقلالية المرأة في درجات تقصي الاعتماد على الرجل في العمل والمجتمع، فأصبحت بذلك رمزًا مهددًا لاستقرار تلك المجتمعات ومنها تم تصوير هذه النمطية في أقبح الصور أو أكثرها جمالًا ووحشية بحيث لا تُرى على أنها «طبيعية» بل خارقة للطبيعة ربما مضاهية في الأبدية والقساوة والدموية الكاونت دراكولا.
تنوعت القراءت بعد ذلك، فمن هي تلك المرأة؟ وما قد تلقيه المجتمعات تحت ذلك التصوير، بحيث إن اختلاف الثقافات والتجارب والمنظورات أضاف تعقيدات على تلك النمطية الناتجة عن مجتمع محافظ. فقد أصبحت الآن جزءًا من عناصر الرعب كصنف وليست القوطية فقط. من منتصف الستينيات في القرن الماضي بدأ يظهر تصوير الفتاة الأخيرة في أفلام «السلاشر» من التقطيع والدموية والرعب المجسد فلا يلفت أو ينتصر على وحشية حامل المنشار مثلًا إلى فتاة الدي جي أو الحانة أو الفتاة التي حتى في هروبها أو نجاتها أو قضائها على مطارديها أو رمز الرعب، فهي لا تقف إلا أن توصف وتصور على أنها تضاهيه قوة أو في «وحشية» كامنة. فهي هنا ليست المرأة الأبدية القاضية بل نوع منها يجعل تلك الفتاة هي الأكثر صمودًا حتى من بين الشبان.
مِن هنا نرى زخم القوطية النسائية كنوع نظري وفلسفي يقرأ أعمال ومنتجات القوطية والرّعب، وليس فقط ما ذكر من تصوير النساء، بل كيف توصف النساء كوحشيات أو كعنصر رعب في بعض أعمال القوطية، كعنصر «اللاميا» مصاص الدماء الأنثى مثلًا في كارميلا، أو الساحرات والمشعوذات البشعات، أو في السيدات في القلاع المتزمتات والقاسيات أو الساديات. فما يجعل النساء يوصفن بتلك الطريقة يعود إلى سياقات العمل السياسية والثقافية والاجتماعية، ومن قد كتب وخط تلك السردية، واتباعها أو عدمه من نمطيات القوطية المعروفة. فمثلًا قد خط التاريخ أحد أقسى الأمثلة في حوادث صيد وقتل «المشعوذات» في مدينة سالم في الولايات المتحدة الأميركية؛ حيث أُحرِقت عديدٌ من النساء من عرقيات مختلفة بتهمة الشعوذة والأعمال الشيطانية من قبل الحركة البوريتانية المتزمتة. ليخرج للعامة بعدها بعقود رسائل وكتابات سرية من اعترافات بعض القضاة بمجاراة المجتمع في صنع وخلق تلك التهم، والحكم بأقسى ما قد يكون للارتقاء في الهرم الاجتماعي كشخص «ينضم» للبقية. فقد ألهمت «مشعوذات» سالم حوادث وأسئلة كثيرة، فإذا ما كانت هناك امرأة شريرة، لماذا النساء وحدهن يتعرضن للعقاب الجماعي والتعميم؟ نرى هنا أن تلك التصويرات إذن تعود نتاج سياقاتها التي كوّنتها وألهمتها وأطلقت سراح تلك النساء سواء في مآسيهن ومعاناتهن أو سراح الغضب والحنق، ليعاقبن ويبرزن كنساء قاضيات.