رامي عبدالرازق
يقول الناقد الأدبي فيليب جون: «إن اليوميات هي كتابة سردية بالضرورة، لكنها ليست حكايات بل تتمثل في تعقب لآثار محددة زمنيًّا، قد تكون أفكارًا أو أوصافًا، وهي تنفتح دون توقف على مستقبل غير متوقع يحد من سطوة كاتبه».
ويذهب الناقد أحمد المديني إلى أن «اليوميات ضرب من الاعتراف وكتابة حميمية تخاطب فيها الذات نفسها دون ادعاء، ويقوم فيها الشك والتردد مكان اليقين والمعرفة»، وهو ما نلمحه متجليًّا في افتتاحية الرواية على لسان النائب إذ يقول: «إنني أعيش مع الجريمة في أصفاد واحدة… ولا أستطيع أن أحادثها على انفراد، هنا في هذه اليوميات أملك الكلام عنها، وعن نفسي، وعن الكائنات جميعًا، أيتها الصفحات التي لن تُنشر، ما أنت إلا نافذة مفتوحة أطلق منها حريتي».
«يوميات نائب في الأرياف» هي رواية عابرة للزمن نشرها الكاتب المصري الكبير توفيق الحكيم عام 1937، وكانت أول ما تُرجم من أعماله للغة الإنجليزية، وكان قد أصدر قبلها ضربة بدايته الأولى في عالم الفكر والأدب «عودة الروح»، التي تدور أحداثها على مستوى نفسي وفلسفي في نطاق أسرة مصرية تعيش في بدايات القرن العشرين، أما اليوميات فهي صورة لعصر كامل، أو لنقل مقارنة حضارية في شكل أدبي حميمي، حيث قضى الحكيم سنوات من عمره يعمل وكيلًا للنيابة في الأرياف المصرية، ووجوده ضمن أروقة المجتمع والسلطة في الوقت نفسه جعله لا يستطيع أن يتجاهل الرصد الهائل الذي تراكم لديه من واقع دراسته للقانون في فرنسا، وثقافته الغربية المتشبعة بروح النهضة والحضارة الأوربية، وقاع الريف المصري المدفون في طين الجهل والخرافة والفساد وخراب النفوس.
استطاع الحكيم أن يرسم في سرديته الذاتية صورًا حية ومتحركة لكل ما يحيط به في أثناء تحقيق شخصية النائب في الرواية الذي هو الحكيم نفسه- في قضية مقتل رجل يدعى قمر الدولة علوان، هكذا يرفق الوصف بالحركة وطبيعتها، واللون والصفة الغالبة، سواء كان ما يصفه إنسانًا أو حيوانًا أو حتى طبيعة صامتة، وهو تصوير لافت بصريًّا، لا شك قد فتح شهية المخرج المصري توفيق صالح (1926-2005) على أن يتناول الرواية عقب صدورها بثلاثين عامًا في فيلمه الذي حمل العنوان نفسه.
يلتقط الحكيم برهافة روح الأشياء الثقيلة الخشنة، وروح البشر الملوثة بتراب العماء الحضاري والكسل الروحي، ثم يعبر عن كل هذا بلغة بليغة، ساخرة، وهادئة، دون ضجيج من المحسنات أو التشبيهات عالية الصوت.
وتبدو قضية إطلاق النار على قمر الدولة هي أخف القضايا الاجتماعية وطأة في واقع الرواية، ولهذا اتخذها الحكيم منطلقًا لنقد العلاقة ما بين القانون والحضارة من ناحية، والمواطن الجاهل الذي لم يلقنه أحد فقه التعامل مع السلطة مقابل المنطق الإنساني من ناحية أخرى.
مذكرات وليست يوميات
قدم توفيق صالح ثمانية أفلام فقط على مدار أربعين عامًا هي حصيلة رحلته الفنية المختلفة واللافتة، منها أربعة أفلام مأخوذة عن نصوص أدبية بدأها عام 67 بفيلم «السيد البلطي»، عن رواية المصري صالح مرسي، واختتمها عام 80 بفيلم «الأيام الطويلة»، عن رواية العراقي عبد الأمير معلة -وهي شبه سيرة ذاتية للرئيس العراقي صدام حسين- مرورًا بلؤلؤة توفيق الحكيم «اليوميات» 1969، ورائعة الفلسطيني غسان كنفاني «رجال في الشمس» التي اقتبسها تحت عنوان «المخدوعون» عام 1972.
شارك صالح في اقتباس «اليوميات» الكاتبُ المسرحي المصري الفريد فرج (2005-1929) في مساهمته السينمائية الوحيدة، ربما لكون الحكيم هو الأب الروحي لجيل فرج بأكمله. واختار صالح المخرج والممثل المسرحي أحمد عبد الحليم في دور وكيل النيابة لكونه شديد الشبه بالحكيم نفسه في شبابه، وهو توظيف بصري جيد استغلالًا لعنصر الصورة السينمائية، وإضفاءً للمسة واقعية وذاتية على الفيلم.
بداية الفيلم تطابق بداية الرواية، ولكن بدلًا من جلوس النائب لكتابة يومياته، يستدعي السيناريو اللحظة على اعتبار أنه يقوم بكتابة مذكراته وليس يومياته بالمعنى التقليدي. حيث نرى كل ما حدث كأنه فلاش باك طويل وليس تدوينًا يوميًّا لمشاهداته وتفاصيل التحقيق في قضية مقتل قمر الدولة.
السؤال هنا: لماذا حافظ السيناريو على افتتاحية الرواية، ولم يتعامل مع النص بشكل السرد الخطي لليوميات، وآثر أن تكون الوقائع المحكية كلها كأنها مذكرات يدونها النائب؟
أغلب الظن أن السيناريو أراد التحرر من فكرة اليوميات التي يدونها النائب كل ليلة، فكتابة المذكرات تعني أن الحدث انتهى، ومن ثم يمكن الدخول في فلاش باك طويل دون العودة لكتابة اليوميات كل بضعة مشاهد، ما يجعل الإيقاع أكثر رشاقة وسرعة، بالإضافة إلى أن كتابة المذكرات يعني أن الحدث لم ينتهِ بالشكل المجازي فهو من خلال استعادته كأنه يحدث مرة بعد أخرى.
يكثف السرد من الأحداث متحررًا من سيطرة صوت النائب على القصة، فيضمن معلومات لاحقة في النص الأدبي ضمن عملية رسم الشخصيات وتهيئة البيئة للأحداث، مثل رسم شخصية المأمور المتحرش، ولعب القمار بين شخصيات السلطة في القرية، وتعظيم الغفير الغبي للبدلة الميري الخالية، وليس لشخص المأمور وكأنه «عبد البدلة».
وتبدو شخصية النائب أكثر بيروقراطية في الفيلم من النص الروائي، وأقل سخرية ورفضًا للواقع المتردي، كأن السيناريو يريد أن يبين حجم تعالي النائب في البداية من خلال تركيزه على بيروقراطيته، التي تظهر في حواره مع مساعده الجديد وكيفية تلقينه أسلوب الديباجة الخاصة بالمعاينة. ويستغل السيناريو شخصية المساعد على اعتبار أنه صفي درامي، أي شخصية يمكن للنائب الحديث معها بحوار مسموع، وهو ما يعادل الخواطر الزخمة الواردة في اليوميات الروائية.
ويعمل السيناريو على اختصار وصف الطريق إلى مكان الحادث، وتداعيات خواطر المأمور، وصولًا إلى موقع الجريمة حيث تمنح الصورة كثافة الوصف. ثم يفرد السيناريو مساحات للشخصيات الأخرى متحررًا من صوت النائب في الحكي، وموزِّعًا المعلومات التي ترد إليه أو التي يذكرها في اليوميات المكتوبة، وذلك على لسان شخصيات أخرى، مثل جارة قمر الدولة المقتول، والعمدة، والشاويش، والمأمور. وهي واحدة من ميزات السرد السينمائي أو الفنون البصرية، تلك الديناميكية التي يتعامل بها الحكي في السينما مع شخصيات العمل من خلال التفاعل الحواري أو الانفعالي، وليس الوصفي أو لسان الحكي الواحد في النص الأدبي.
يعود صوت النائب في المواضع التي يريد فيها السيناريو وصف بعض الشخصيات غير الأساسية مثل القاضي الذي يأتي في مهمة سريعة كل أسبوع، أو التعبير المباشر عن مشاعره وأفكاره تجاه شخصية الفتاة ريم، بطلة القصة والسبب وراء نزول النائب من علياء البيروقراطية، وهي الفتاة الجميلة التي يتم اتهامها بقتل قمر الدولة زوج أختها المتوفّاة.
لا يبدو صوت النائب الداخلي مؤثرًا بشكل كبير، بل على العكس فإن صمت الشخصية كان من الممكن أن يصبح أفضل وأكثر سينمائية خاصة حين يتركنا نكتشف ملامح الشخصيات من خلال عينيه فقط، ونظرته لهم، وليس من خلال وصفه الصوتي لهم.
كذلك يمزج السيناريو بين شعور النائب بالوحدة والقلق الوجودي، ومشاعره المتأججة تجاه ريم الجميلة حيث نسمعه يقول بصوته الداخلي «لا أستطيع أن أحادثها على انفراد»، وهو تكثيف مقصود بالطبع نظرًا لزمن الفيلم الضيق بعيدًا عن مساحات الحكي المفتوحة في الرواية.
وعلى الرغم من صوت النائب الذي نسمعه من وقت لآخر فإنَّه يتحول تدريجيًّا إلى شخصية من شخصيات الفيلم، وكأن ثمة راويًا عليمًا خارج شخصية النائب هو الذي يتولّى الحكي.
كاتب ورسام
يضيف السيناريو صفة جديدة على شخصية النائب تزيد على صفاته بالرواية، فهو ليس كاتبًا فقط، لكنه رسّام أيضًا، فهو يرسم بجانب الكتابة. واختيار موهبة أو شغف الرسم يرجع للطبيعة البصرية للسينما، فالرسم يسهُل الاطلاع عليه بالكاميرا أكثر من الكلمات المكتوبة. وهو بالطبع عنصر يُحسب لعملية الاقتباس، فالمخرج –الذي هو نفسه كاتب السيناريو- اختار حيلة بصرية كمعادل للكثير من جمل الوصف والسرد الأدبي.
كذلك تجدر الإِشارة إلى قدرة توفيق صالح على صياغة مجازات معبرة على مستوى الصورة لتعكس الكثير من الهموم التي تحملها أكتاف قضية القانون والحضارة التي استمرت تشغل بال الحكيم ومن جاؤوا بعده.
في لقطة معبرة يدور حوار بين النائب ومعاون الإدارة حيث يقول النائب: «القانون هو الحكومة، والإجراءات هي العدل»، بينما ينفخ المعاون الأتربة من فوق أكداس الملفات المحفوظة، وهو يرد على هذا المنطق بعنف: «المهم الأمن. والأمن هو العدل. أما العدل اللي بالك فيه، فده بتاع ربنا». وبالطبع يبدو المجاز واضحًا فيما يخص الأتربة التي ينفخها من فوق الملفات، والملفات هي شؤون الناس وقضاياهم ومشكلاتهم، ولكن لا أحد يهتم بها، المهم الأمن! والأمن هنا هو أمن النظام الذي يريد أن يغلق قضية مقتل قمر الدولة كي لا تلقي بظلالها على عملية تزوير الانتخابات المُطالب بها رجال السلطة من أجل أن يفوز حزب الحكومة.
وفي النهاية ينتصر منطق الأتربة، حيث نرى النائب مسجونًا خلف قضبان غرفة النيابة، عقب مشهد الصدام بين أنصار الحكومة الجديدة وأفندية الحكومة القديمة، أو الرافضين لتزوير رأي الشارع والناس.
وعلى عكس النص الأدبي يخفي السيناريو أمر وفاة ريم غرقًا عبر إشارة ترد للمأمور، ويجعلنا نشاهده بالفعل، أي مشهد الغرق نفسه، على اعتبار أنه أفضل خاتمة للحادثة الأساسية –مقتل قمر الدولة، والحوادث المجازية «التحرش بريم، وتزوير الانتخابات».
ويربط السيناريو بذكاء بين العثور على صندق أصوات صحيحة ملقى في ترعة القرية «دلالة على الفساد وتجبر السلطة وسحق رأي الناس»، والعثور على جثة ريم الجميلة في قاع الترعة. والربط هنا مقصود بالطبع، فهذا الواقع ملوث ومريض لديه القدرة على قتل كل براءة أو طهر؛ فمن البداية تحوم الشبهات حول مقتل قمر الدولة بسبب محاولة اغتصاب ريم.
وفي مشهد أيقوني مجازي رائع يتم وضع جثة ريم الجميلة عقب استخراجها فوق صندوق الأصوات الغارقة المنتشل، وكأنه مذبح فساد السلطة الذي انتهكت روحها وجسدها، حيث يبدو كأن غرق ريم سببه محاولة إغلاق ملف القضية للتفرغ لتزوير الانتخابات.
ثم ينتهي الفيلم كما بدأ، بالنائب يدوّن مذكراته، وكأننا أمام بناء دائري الغرض منه أن التأكيد على أن كل الأزمات والقضايا التي تناولها الفيلم كانت ولا تزال قائمة، وهو من ميزات البناء الدائري في الدراما، الذي يخلق استمرارية مؤثرة، ولكن من أجل أن يعفي الفيلم نفسه من الاصطدام بالرقابة، عام 1969 يذكر في ختام مذكرات النائب تاريخ التدوين وهو عام 1935 على اعتبار أن ما حدث في الفيلم كان يحدث ولم يعد!