رامي عبدالرازق
من بين التحديات التي غالبًا ما يواجهها السيناريست وهو يتصدى لتحويل عمل أدبي إلى نصٍّ سينمائي هو كيفية التعاطي مع اللغة المكتوبة بالخبر، عبر الصورة المشكلة بالضوء، خصوصًا إذا اعتبرنا أن اللغة في تمامها عنصر حيوي ضمن شرايين النص الأدبي، وليست مجرد وعاء لاحتواء الحكاية، وتحديدًا في النصوص التي تصبح فيها اللغة نفسها جزءًا من الدراما، حتى إنَّ تجريد السرد منها يؤدي إلى وجود عوار بالقصة!
تُعد قصة الطوق والأسورة التي صدرت ضمن الأعمال الكاملة للقاص المصري الراحل يحيى الطاهر عبدالله (1938-1981) واحدة من الروايات التي تشكل فيها اللغة الشعرية كائنًا عضويًّا من الصعب فصله عن طبيعة الحكاية، التي تدور في أقصى الصعيد المصري، متخذة من فنون الشعر والراوي الشعبي والأراجوز والمرويات الشفاهية والتاريخ وتراث العصبيات والمِحن عجينةً لتشكيل بدن الرواية المنحوت في غموض وكثافة جاذبية خاصة، تجعل الرواية نفسها قابلة للقراءة من ناحية، والحكي على المصاطب وفي المقاهي كأنها سيرة أو قصة شعبية من ناحية أخرى.
ظاهريًّا قد تبدو الحكاية على قدر من النمطية خاصة فيما يتعلق بالعواميد النفسية والاجتماعية التي يقوم عليها بناؤها الدرامي؛ يحكي لنا الراوي العليم عن عائلة صعيدية بالأقصر في زمن ما سوف ندرك أنه بداية الثلاثينيات من القرن الماضي تقريبًا –عبر الحوادث والأخبار وليس عبر الأرقام، فهذا مجتمع يعيش خارج حسبة الزمن بمفهومها الحديث- تتعرض هذه العائلة إلى مجموعة من المحن التي تشبه محنة مجتمع كامل يلوثه تراب التقاليد العمياء ويتطاير في وجهه قش الخرافات الجاف، ويسيطر عليه شعور دائم بالفقد والعجز والحاجة والنقصان والحزن.
عائلة بخيت البشاري المشلول وزوجته حزينة –التي سميت يوم ماتت أمها وهي تلدها فصار اسمها صفة التصقت بها وبعائلته المنكوبة، تفقد بكريَّها مصطفى بالهجرة للعمل وابنتها الصغرى فهيمة بحمى النفاس، بعد أن تلد فتاة مشكوكًا في نسبها حورية، من أب عاجز ورجل أسود يسكن في المعبد القديم بالبر الغربي، حيث كان قدماء المصريين يصلون ويدفنون كنوزهم وموتاهم، ثم تكبر البنت يتيمة يترصدها طوق العادات وأسورة الشرف المدمم، ويموت أباها محترقًا في نار عجزه عقب زواجه من امرأة أخرى، بينما لا تشفع لها براءتها وكونها فراشة ملوثة الأجنحة بطين الكبت والجهل والتكرار، فتدفن حية من أجل أن تبوح باسم حبيبها الذي شرخ طبق جسدها الشاب، ثم أخيرا تفقد رأسها الجميل الذي يلقيه ابن عمتها في حجر خالها مصطفى فيقع مشلولًا كأبيه، يفترش نومته، وتنقله أمه حزينة من الظل إلى الشمس مثلما كانت تنقل جسد أبيه العاطل.
شعرية الحوار
في عام 1986 قدم المخرج خيري بشارة بالتعاون مع السيناريست يحيى عزمي معالجة سينمائية للرواية من بطولة عزت العلايلي وشريهان وفردوس عبد الحميد، واستكتبوا شاعر العامية الكبير عبد الرحمن الأبنودي من أجل صياغة حوار الفيلم باللغة الجنوبية ذات اللمسة الشعرية المشعة، التي أراد بها المخرج أن تغرف من شعرية اللغة الأدبية في الرواية، وتعيد إنتاجها ضمن إحدى أهم أدوات الوسيط السينمائي أي الحوار، وهي تفصيلة تحسب بالطبع لصناع العمل، فالأبنودي ليس مجرد شاعر جنوبي على دراية بمفردات هذا العالم وتفاصيله اللغوية وليس مجرد رفيق مشوار للطاهر عبد الله منذ أن قدم من بدلته إلى القاهرة في الستينيات، قبل أن يرحل مبكرًا في حادث أليم، بل لدى الأبنودي تجربة هامة لا تزال تدرس حتى الآن في مجال الاقتباس السينمائي من الأدب وهي تجربته الشهيرة في صياغة نص الحوار والأغاني الخاصة بالفيلم الملحمي «شيء من الخوف» عن رواية ثروت أباظة وإخراج حسين كمال عام 1969.
وبما أن الرواية شحيحة الحوار وغالبية ما يرد فيها من جمل حوارية يأتي مندمجًا مع سطور الوصف الخاص بالراوي العليم فلا نعود نعرف هل هذا حوار أم حكي؟! فإن الأبنودي بذل جهدًا كبيرًا في تحوير هذه السطور مختلطة الأساليب، ذات النبرة الشعرية العالية، وقام بصياغتها في شكل جمل حوارية بين الشخصيات، ومن ثم أصبح لدى النص السينمائي هذه الروح القريبة من روح اللغة المزخرفة المشغولة بجماليات بلاغية وتصويرية في النص الأدبي.
وبجانب شعرية الحوار اشتغلت المعالجة على تعميق وتأطير عدد من الشخصيات التي لم تكن تحتل مساحة واسعة من الحكي في الرواية، وعلى رأسها محمد فندق الشرقاوي المدرس وتاجر المواد الغذائية صادق الذي يصبح هو الآخر ضلعًا أساسيًّا في معركة الجهل والخرافة التي تطوق أعنق ساكني قرية الكرنك عام 33، حيث يحدد السيناريو الزمان والمكان في اللقطة الأولى بدلًا من تركهما لحدس القارئ، وتعرفه على الزمن من خلال الأحداث التاريخية في الرواية الأصلية.
جاءت فائدة تعميق بعض الشخصيات بصورة مختلفة عن الرواية لصالح عنصرين في الفيلم: العنصر الأول هو أن شخصية محمد أفندي الشرقاوي المدرس صارت نموذجًا للمثقف السلبي الذي لا يتمكن عبر التعليم، أو الثقافة أو حتى الغناء قدم الدور المطرب محمد منير، في كسر أي طوق أو نزع أي أسورة عن رقبة أهل البلدة وأيديهم، بل إنه عندما انضم إلى صادق البقال حين استقدم ماكينة طحن الحبوب إلى البلدة بدلًا من ذهاب أهلها للطحن في البر الغربي قام أهل القرية برجمه مع صادق، ورفضوا أن تدخل الطاحونة إلى البلدة لأنهم يؤمنون أنها لن تعمل إلا عندما تأكل جسد طفل أو طفلين من أبناء القرية، وتروي موتورها بدمهم.
وفي الوقت نفسه استخدم المخرج الشخصية والممثل/المطرب الذي أدى الدور في تضمين المشاهد عنصرًا غنائيًّا نابعًا من الأغاني التراثية الصعيدية والنوبية المنتشرة في المنطقة، ومن ثم عمق من الإيهام بالبيئة، وضمن مستوى شعري جديد من مستويات الحكي أُضيف إلى مستوى الحوار، ومأخوذًا من روح الرواية وحالتها الشعرية واجوائها التراثية المنتشرة بين الفصول والوحدات السردية.
أما العنصر الثاني فهو الذي أشرنا إليه إجمالًا وهنا نفصّله بالحديث عن شخصية صادق البقال التي قدمها الممثل أحمد بدير هذه الشخصية تكاد لا تبين في الرواية، ولكنها هنا تمثل عنصرًا أساسيًّا من عناصر الحِمل الاجتماعي الذي يأخذه الفيلم من فوق كتفي الرواية ليحمله على كتفيه. هذا الرجل تأتي سيرته في الفيلم على اعتبار أنه يسرق المواد الغذائية من المدينة ويأتي ليبيعها في القرية، وعلى رأسها في تلك الفترة الشاي والسكر وعلب التبغ الشعبي «المعسل»، ولكنه رغبة في الاستثمار كأي رجل أعمال أريب يقرر أن يشتري طاحونة ميكانيكية ليستغل حاجة أهل القرية لطحن الغلال، بدلًا من ذهابهم إلى قرية أخرى. وكما أشرنا فإن أهل القرية يرفضون دخول الماكينة إلى شوارعهم لأنهم يظنون أن صوت الطحين ما هو إلا خفقات قلب الأطفال التي يجب أن تبلعهم الطاحونة قبل أن تدور تروسها، ولا يجد صادق حلًّا سوى أن يقوم برشوة خادم ولي القرية الشيخ برهان لكي يجعل الشيخ يوافق على أن يبارك دخول الطاحونة إلى البلد. وهكذا وفي مشهد بليغ قوي الدلالة نرى الشيخ برهان وهو يدخل إلى منزل الطاحونة راكبًا حماره بينما يتبارك أهل القرية بلمس الحمار في حين يستقبله صادق البقال فخورًا مزهوًّا بنجاحه، وسعيدًا بما سوف يحققه من مكاسب تتضاءل بجانبها رشوته لخادم الشيخ والشيخ نفسه.
في الرواية لا يوجد أثر للخط الخاص بالطاحونة وهو كما يبدو بالطبع من إضافات الاقتباس، ولكن السيناريو ينجح في أن يجعله عنصرًا عضويًّا في الحكاية على المستوى الفكري والاجتماعي، كما يستخدم الطاحونة في النهاية بصورة دراماتيكية موجعة وبراقة في الوقت نفسه، عندما يجعل سعدون ابن عمة فرحانة –التي هي حورية في الرواية- يلقي بجسدها في فوهة الماكينة بعد أن يذبحها بالمنجل، وبهذا تتشعب الدلالات وبنمو المجاز أكثر دون افتعال أو مبالغة، بل عبر حسبة فنية دقيقة فائقة الذكاء، ففرحانة تخسر حياتها بسبب أطواق الجهل وأساور الخرافة، وهي ابنتهم التي أنجبتها أمها من رجل غير أبيها كي تقاوم اتهامها بكونها عاقرًا، هذا الرجل يدعي أنه مبروك وأن لمسته تحضر الأطفال إلى أجساد النساء، ثم تكبر فرحانة وهي لا تميز بين البراءة والخطيئة، وبين الحب والأخوة، بسبب الجهل وقلة التعليم وغياب الثقافة والتراجع الحضاري فيكون مصيرها أن تُذبح وتُلقَى في الطاحونة التي تصبح هي الأخرى رمزًا لسيطرة الخرافة على القرية كما ذكرنا.
تجدر الإشارة إلى وجود ارتباك ما في مسألة خطيئة فرحانة، ففي الرواية نعرف أنها مارست الحب بالفعل مع ابن الشيخ فاضل المتعلم المثقف الحنون –وهي إشارة لعطش ما تمثله فرحانة للنور بدلًا من ظلامية الجهل والخرافات، أما في الفيلم فنراها تقع بينما تصطاد واحدًا من الأرانب، وهو المجاز الشعري المرتبط بها، حيث نرى الأرنب الأبيض الذي يمثلها يحوم حولها في مشاهد دفنها حية، ثم تنهض فإذا بالدم يلوث ما بين ساقيها، كدلالة على أنها فقدت عذريتها- أي إنها لم تخطئ ولم يشرخ طبق جسدها على يد رجل، في حين أن جدتها تشك في كونها حاملًا عندما تجدها تتقيأ وتنام كثيرًا فينزل عليها خبر العذرية المفقودة كالبرق الصاعق.
هل أخطأت فرحانة في الفيلم كالرواية؟ أم لم تخطئ ومن ثم لم تجد ما تبوح به لخالها عندما دفنها حية؟! لا يبدو هذا واضحًا أو معلنًا بصورة كاملة كما الرواية، وربما أراد السيناريو أن يضعنا في حالة الـ«ما بين» كي يجعل من فرحانة ضحية جديدة لطوق الجهل وأساور الخرافة الفاضحة.
البناء الدائري
أخيرًا من الضروري أن نشير إلى أن السيناريو حافظ في معالجته للنص على البناء الدائري للأحداث، فالبناء في هذه الحالة لا يمكن فصله عن الموضوع الأساسي، وهو أن هذا المجتمع الذي يشده طوق العادات من رقبته وتكبل أساور الخرافة معصمه لا يمكن أن يتقدم، بل سيظل يتعرض للهزائم، ويفقد زهرة شبابه بالموت والقهر والقتل رغم أنهم من المفترض أن يفرخوا وتحلق أجنحتهم بعيدًا عن أعشاش القشة القديمة.
الطوق والأسورة هي أدوات مدورة، تحيط بالرقبة والمعصم، وتكرار المآسي في عائلة حزينة بصورة شبه متطابقة توحي بدائرية الزمن والفعل، والزمن الدائري معناه أن لا شيء يتغير وحتى الخط المستقيم يظل مسجونًا كقطر داخل أسوار الدائرة. والخال مصطفى نفسه في السيناريو حين يحاول المدرس محمد أفندي الشرقاوي أن يثنيه عن تعذيب ابنة أخته من أجل الاعتراف باسم الحبيب، يقول له إن طوق العادات وأساور العصبية لم تنفك عن رقبته ويديه حتى بعد أن طاف بالبلاد طوال عشرين عامًا.