د. وليد سيف
في دورته الـ39 التي عُقدت في الفترة من الخامس وحتى العاشر من أكتوبر 2023، والتي حملت شعار الكوميديا، أجرى مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط ضمن فعالياته استفتاءً حول أفضل عشرة أفلام كوميدية في تاريخ السينما المصرية.
حصل على المركز الأول فيلم إشاعة حب للمخرج فطين عبد الوهاب، كما ضمت القائمة أربعة أفلام أخرى لفطين، هي: «مراتي مدير عام» في المركز الثاني و«ابن حميدو» في المركز الرابع، و«الآنسة حنفي» في المركز السادس، و«عيلة زيزي» في المركز الثامن. وهكذا أثبت المخرج الراحل الكبير أن كوميدياته ما زالت باقية وأنه ما زال صاحب الأثر الأقوى في الكوميديا المصرية.
كان المهرجان قد سبق أن أجرى احتفاءً في دورته السابقة بالفنان فطين عبد الوهاب «22 نوفمبر 1913- 12 مايو 1972»، أي في ذكرى رحيله الخمسين، وصدر ضمن الاحتفال كتاب ساحر الكوميديا لكاتب هذه السطور، حيث اشتمل الكتاب على عرض المسيرة الفنية والحياتية للمخرج الراحل، وكذا النقد التحليلي لكل أعماله.
يُعدّ فطين أحد أخلص المخرجين المصريين لفن الكوميديا، حيث لم يخرج من بين أفلامه الـ57 عن هذا النوع إلا نادرًا. وفي سياق تحليل أعماله الفنية يذكر أن بداية فطين مع الكوميديا كانت اعتبارًا من فيلمه الثاني «جوز الأربعة» من إنتاج 1950، ثم توالت أفلامه الكوميدية التي تعد نسبة كبيرة منها من روائع هذا.
امتدت مسيرته الفنية لنحو عشرين عامًا فقط قدم خلالها 57 فيلمًا، حقق معظمها نجاحًا كبيرًا أيَّا كان بطل فيلمه حتى ولو كان بعيدًا تمامًا عن مجال الكوميديا. ومن هؤلاء: رشدي أباظة في «الزوجة 13»، وصلاح ذو الفقار في «مراتي مدير عام» و«كرامة زوجتي»، وأحمد مظهر في «أضواء المدينة».
كان فطين بعد مسيرة تعليمية وعملية متخبطة قد تخرج وأصبح ضابطًا بمنطقة قناة السويس، ووصل إلى رتبة اليوزباشي «نقيب»، وظل في عمله العسكري حتى عام 1944، حين قرر فجأة البحث عن طريق جديد، فأنهى خدمته بالجيش، وانتقل للعمل في عالم السينما.
كان بالتأكيد قرارًا في منتهى الجرأة بعد أن حقق نجاحًا واستقرارًا بصفته ضابطًا بالقوات المسلحة، لكن من الواضح أن نداء الفن كان يطارده، وأن شعوره بموهبته أو استعداده لخوض العمل الفني قد بدأ يتأكد لديه.
أدى هذا التخبط إلى تأخر بداية تجربة فطين في السينما وقد تجاوز عمره الثلاثين، لكنه في الحقيقة دخل السينما وهو على درجة عالية من النضج شكَّلتها خبراته المهنية المختلفة التي واصلها بالعمل لفترة في مجال إدارة الإنتاج أو كمساعد إخراج، وكذلك كان على درجة من الثقافة كفلتها له حياته في بيت به شقيقان يعملان بالفن، هما: المخرج حسن عبد الوهاب، والممثل والمنتج الكبير سراج منير. كما ضم بيت الأسرة مكتبة ثرية في مجالات الآداب والفنون، وإضافة إلى ذلك امتلك خبرة حياتية واسعة، كما مارس أعمالًا منتظمة أتاحت له الاستقرار ووفرت له مساحات من وقت الفراغ، خاصة في مدينة السويس الهادئة البعيدة عن القاهرة، وعن أماكن السهر.
الطبيعة المتأملة والثقافة الواسعة جعلته يتميز في أسلوبه الفني؛ فعلاوة على الطابع الكوميدي الخالص فإنّنا نستطيع أن نلاحظ في أفلامه انشغاله بالهم الاجتماعي والمقدرة العالية على التعبير عنه بأسلوب ساخر، فوسط الأجواء الكوميدية الصارخة استطاع أن يناقش فى أفلامه قضايا في غاية الأهمية، فهو في إشاعة حب يتناول ظاهرة الكذب والادعاء والتناقض المجتمعي في تركيبة الشخصيات. وفي «عائلة زيزي» يقدم درسًا عن أهمية تكاتف الأسرة وتوحدها في المواقف الصعبة. أمّا في آخر أفلامه أضواء المدينة فهو يعرض صورة كاريكاتورية من كواليس عالم الفن ساخرًا ممن يعتمدون على المظاهر، فلا يعترفون بصاحبة موهبة لأنها فقيرة وقادمة من الأرياف حتى تلقنهم هذه الفتاة درسًا.
على مستوى قضايا المرأة، قدَّم فطين ما يمكن اعتباره من أهم ما شاهدته السينما المصرية من أعمال لعبت دورًا كبيرًا في تنمية الوعي في هذا المجال. في فيلمه الشهير «الآنسة حنفي» ينتقل بالرجل الظالم المتغطرس القاهر لحرية المرأة إلى موقعها ليعاني أشد المعاناة، وليدرك كم كان ظالمًا. ولك أن تعلم أن ظاهرة تولّي المرأة مناصب قيادية في مصر كان أمرًا نادرًا في الستينيات، فماذا لو أصبحت هذه المرأة مديرة على زوجها في «مراتي مدير عام»!
أمّا في فيلم «كرامة زوجتي» في منتصف الستينيات فتُطلق البطلة جملتها التي لا تنسى في وجه زوجها الخائن: «لو خُنتني حاخونك». هي لم تفعل ذلك بالفعل، لكنها جعلته يعاني الشكوك والظنون المدمرة، ولتجعله يفكر هو أيضًا من زاويتها: لماذا يعطي لنفسه فقط هذا الحق المزعوم؟ ولماذا يرى المرأة مجرد كائن عليه أن يتقبله ويستسلم لنزواته دون حتى حق الاحتجاج؟!
أعتقد أن أفلام فطين بروحها المرحة الجذابة وبقائها في ذاكرة وقلوب الجماهير، لعبت دورًا في تغيير وتطوير الذهنية المصرية والعربية والانتقال بها من عالم قهر المرأة إلى مرحلة الإيمان بحقها في المساواة التي نعيش بعض ثمارها الآن.
جدير بالذكر أنَّ أزهى فترات الكوميديا في مصر من الناحية الفنية السينمائية هي الفترة ما بين 1966 وحتى 1972 التي انفرد خلالها فطين بعرش النجومية، قدم خلالها أعماله التي لم تعتمد على نجوم كوميديا بقدر اعتمادها على سيناريو مُعالَج بأسلوب كوميدي ولغة سينمائية معبرة وممثلين جيدين.
استطاع من خلالها أن يصحح النظرة للفيلم الكوميدي؛ فهو ليس فيلمًا سهل الصنع كما يتصور البعض. وبالنظر إلى أفلام فطين نراه يتميز بقدرات خاصة في التعبير، علاوة على أنه مثل الجراح الماهر يستأصل كل ما يعوق الأحداث عن التقدم، ويعرف كيف يتعامل مع العمل ككل، ليحافظ على طابعه الكوميدي ويوظف قدرات الممثلين دون إخلال بالنص في كل مشهد على حدة في أثناء التصوير، ثم يضبط إيقاعه العام أيضًا بالتعاون مع المونتير للحفاظ على التأثير المطلوب بدقة ومن خلال إحساسه.
فكل موقف كوميدي يستلزم بدوره إيقاعًا خاصًّا ولحظة مناسبة للقطع، لو لم يصل إليها فلن يصل التأثير الكوميدي، ولو تجاوزها ولم يتوقف عندها بقدر، يفقد اللحظة المثيرة للضحك، فيضيع أثرها. إنّ عليه أن يدرس لقطاته بشكل جيد؛ فدخول لقطة قبل لقطة، أو نقص لقطة، أو إضافة لقطة، يفرق كثيرًا في مثل هذه المواقف التي نتصور لفرط بساطتها أنها لا تُشكِّل أي صعوبة في صياغتها أو صناعتها.