ديفيد سيمز
ترجمة: على زين
واصلت رائدة سينما الموجة الفرنسية الجديدة المحبوبة إنتاج أفلام مثيرة ومليئة بالتحديات حتى وفاتها عن عمر يناهز 90 عامًا.
كانت أنييس فاردا Agnès Varda عملاقًا قلما يجود به الزمن في السينما الفرنسية. قد يبدو قلة اهتمام النقاد بأعمالها مقارنة بتأثيرها مشهدًا متناقضًا بعض الشيء، ومع ذلك لا يمكن الزعم بأن الأعمال التي قدمتها مرت على تاريخ السينما مرور الكرام على امتداد العقود الستة الماضية، والتي شملت التأثير على حركات كاملة في تاريخ الأفلام ساعدت هي في تدشينها.
توفيت فاردا عن عمر يناهز 90 عامًا بعد صراع قصير مع مرض السرطان. في 2019، عرضت لأول مرة عملًا جديدًا في مهرجان برلين السينمائي الدولي. إن المرأة، التي بدأت حياتها المهنية في الإخراج عندما كانت فكرة إخراج إمرأة للأفلام غير معروفة من الناحية العملية، قامت بالعديد من التحديات في كل مرحلة من حياتها.
«أنا ما أزال حية؛ ما زلت أشعر بالفضول. لا ينبغي أن أعامل كقطعة قديمة من اللحم المتعفن!» الجملة السابقة قالتها فاردا في العام 2018، تعليقًا على عودتها للإخراج في فيلم وجوه الأماكن، بعد فترة من التوقف عن العمل. وقد رشح فيلمها السابق للأوسكار في العام نفسه «كانت فاردا هي أكبر الشخصيات عمرًا التي رشحت للأوسكار عبر تاريخه». ظهرت فاردا لأول مرة في عام 1955 مع فيلم نقطة قصيرة La Pointe Courte، وهو دراما من الحياة تدور حول زوجين تعيسين يعملان في بلدة فرنسية صغيرة لصيد الأسماك ويعيدان النظر في علاقتهما. يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه أول فيلم أدخل الموجة الفرنسية الجديدة في تاريخ السينما؛ وهي حركة سينمائية قلبت الوسط السينمائي- على الرغم من أن الفيلم ظهر قبل سنوات من اختراع المصطلح.
فضلت فاردا أسلوبًا شبيهًا بالأفلام الوثائقية في أفلامها الدرامية. فقد استخدمت فيها ممثلين غير محترفين، وصورًا ثابتة مثيرة للذكريات «بفضل استعانتها لأصولها المصورة فوتوغرافيًا»، إضافة إلى الحبكات التي تشعرك في البداية بأنها بلا هدف، لكنها تفاجئك بعد ذلك أنها اشتقت من الحبكة الأصلية أخرى فرعية تبني عليها حكايتها الرئيسة. فيلمها الثاني، كليو من 5 إلى 7 عام 1962، هو رحلة قصيرة مدتها 90 دقيقة بعد يوم عادي في حياة امرأة تنتظر أخبارًا مصيرية من طبيب. الفيلم يصور عملية تلقيها الخبر عمليًا في الوقت الفعلي، حيث تتابعها الكاميرا من مقهى إلى مقهى وهي تتحدث مع الأصدقاء، وتتأمل مصيرها، وتتجاهل الأخبار السياسية الأكثر قتامة التي تتسرب من الراديو.
كان العمل عبارة عن تحفة منسوجة بالأفكار الوجودية التي تتسلل إلى المشاهد، كاشفًا عن أسلوب فاردا الواقعي وثقلها الفكري والفلسفي. وقد اعتبره النقاد جزءًا من حركة «Left Bank» في السينما الفرنسية، وهي فرع من الموجة الجديدة لكنه ذو توجه أكثر صوب السياسي.
وعلى عكس المهووسين بالفيلم كنوع فني فريد مثل جان لوك غودار وفرانسوا تروفو وكلود شابرول، كانت فاردا ومعاصروها «بما في ذلك جاك ديمي وآلان رينيه وكريس ماركر» أقل هوسًا وأكثر تركيزًا على الحدود التجريبية للسينما. فقد نظرت فاردا إلى نفسها على أنها أديبة وسينمائية في الآن نفسه، واصفة نهجها بـ«السينما المكتوبة» أو «الكتابة بالفيلم»، حيث السينما وسيط نجح في الجمع بين خلفياتها بوصفها كاتبة ومصوّرة.
على مر العقود، كافحت فاردا لجذب الاهتمام لأعمالها بالمقدار نفسه الذي حظيت به أعمال كبار مخرجي الموجة الجديدة. وعلى الرغم من اهتمامها بإنتاج أعمال تنتمي أسلوبيًا لها، مثل «Le Bonheur» لعام 1965، و«Vagabond» لعام 1985، والتي تعاونت فيهما مع الممثلة «Sandrine Bonnaire» وهما من أكثر الأعمال النسوية الصريحة لها، إلا أن فاردا استمرت في صناعة الأفلام الوثائقية بشكل يعكس إخلاصها الكبير لها. في الستينيات من القرن الماضي، أنتجت عملين قصيرين عن اعتقال هيوي بي نيوتن «بلاك بانثرز وهوي»، ويمكن القول إن أفضل إنجاز لها هو الفيلم الوثائقي المتحرر من كل القوالب المتعارف عليها للوثائقيات 2000 The Gleaners and I، والذي تلعب فيه فاردا دورًا رئيسًا في التمثيل.
جاء فيلم وجوه الأماكن لفاردا بعد تسع سنوات من فيلم الوثائقي «شواطيء أنييس The Beaches of Agnès»، والذي ظن البعض أنه قد يكون العمل الأخير لها. غير أنها استمرت في التصوير خلال الثمانينيات من عمرها، ومن المرجح أن نجاح وجوه الأماكن فتح أعمالها على جيل آخر أصغر سنًا. حصلت فاردا على جائزة الأوسكار الفخرية في عام 2018، وهو العام نفسه الذي رشح فيه وجوه الأماكن للجائزة. غير أنه عوضًا عن الاكتفاء بهذه الجائزة واعتبارها تتويجًا لمسيرتها وختامًا لها، شرعت فاردا في العمل على فيلم جديد عُرض لأول مرة في برلين عام 2019 وهو الآن بمثابة الوداع السينمائي الحقيقي لها.
«كنت خارج عالم السينما ولم أكن أعرف أحدًا من حولي ينتمي له، بل وحتى لم أكن أشاهد الأفلام». العبارة على لسان أنييس فاردا في مقابلة لها عام 2017. ثم تستطرد قائلة «لكن الموجة الفرنسية الجديدة موجودة الآن في كل مكان. في كل بلد، لدى صناع الأفلام الجدد مجال للتحدي والخلق..نحن بحاجة إلى أشخاص لا يصنعون الأفلام للأغراض التجارية. هذا هو الهدف المشترك لدينا- وقد حاولنا تحقيق شيء ما لخدمة هذا الهدف».