تغريد العتيبي
لعبت القوطية في عديدٍ من الحالات التاريخية المسجَّلة دورًا في الحملات القومية الأدبية إما لإدانة الفترات المتنازع عليها من التاريخ الوطني أو إعادة كتابتها وإعادة فحصها، فضلًا على توفير الآلية للإشارة إلى السجل التاريخي الوطني الخاص بالفرد والاحتفال به. في مثل هذه الأساليب، توفر القوطية القومية وسيلة لفهم الروايات المؤلمة الممزقة أو المكبوتة، أو توفر إحساسًا بتماسك الهوية القوطية التي تتجاوز السياسات والطائفية الدينية. فمثلًا في يوم التأسيس الأول احتُفل به عام 2022 أوجدت المملكة العربية السعودية طريقها للاحتفال بتنوع قوميتها وتاريخها ككل مهيمن، من خلال حفل أزياء قوطية على مستوى البلاد. ما جعل ذلك الطابع يبدو كمسرحية احتفالية تجلب الماضي إلى المسرح المعاصر بتنوُّعٍ زاخر في الأزياء والملابس والأغاني والقوافي الفلكورية، ممتدة إلى مسابقات وملحمية وشعرية. لكن نلحظ أنه مع هذا التنوع الاحتفالي بالقومية القوطية الوطنية وانتشار المنتجات الثقافية في هذا المجال، فقد جاء بشكل واضح بعد وفاة الصحوة وفترة تراجعها من 2015 إلى 2018. من هنا نرى أيضًا هيمنة أعمال الرعب والقضايا المثيرة للجدل على الشاشة الفضية في المملكة العربية السعودية لما يقرب عقدًا من الزمن. تلك تركزت غالبًا على استعمال العناصر القوطية والأساطير المحلية كقبائل من الجن لتوجيه أصابع النقد وتشكيل إعادة الكتابة القوطية لحقب زمنية معينة، مثل الانتقال إلى ما بعد الصحوة.
تلك الاضطرابات التي شكلت الثقافة الشعبية السعودية يمكن قراءتها وفحصها من خلال عدة أعمال قوطية مثل «العاصوف» عُرِض عام 2018 من إخراج المثنى صبح «تلته عدة مواسم يتبع حقب زمنية مختلفة»، حيث يروي حكاية عائلة بسيطة في التكيُّف مع التغيُّرات المجتمعية والسياسية بما في ذلك حصار مكة «1979»، من قبل متطرفين في السبعينيات من القرن الماضي. ونذكر أيضًا مسلسلًا آخر أثار الجدل في الأوساط المجتمعية من أخلاقيات تصوير الشخصيات المتطرفة وهو مسلسل «رشاش» عُرِض عام 2022 وهو مسلسل تشويقي من إخراج كولن تيغ يتبع متطرفًا يعتمد الإجرام وسيلة في الثمانينات من القرن الماضي. لعل تلك الأعمال التي ذُكِرت تعرَّضت لانتقادات من المجتمعات المحافظة، وأخرى من جدليات الأخلاقية، إلا أن تصوير القومية القوطية وإعادات الكتابة أو التصوير لا تتواجد فقط في الأعمال الجدلية، بل قد تكون احتفالية معززة للروح القوطية للشعب مثل الفيلم الوثقائي القوطي «من ذاكرة من الشمال» للمخرج عبد المحسن المطيري عُرِض عام 2022 ويروي قصصًا من الذاكرة المنسية لحرب الخليج عامي 1990 و1991. تلك الحكايات المؤلمة صُوِّرت من زوايا اجتماعية مختلفة، حيث ينطلق طاقم من صناع الأفلام الذين شهدوا الأحداث في طفولتهم في رحلة عبر المملكة لتدوين قصص الذين عاشوا تلك الصدمات والنزاعات. من هنا تظهر لنا أهمية القوطية والمنتجات الثقافية، حيث بالنظر إلى تلك الأعوام في الزخم الإنتاجي ما بعد الصحوة، وفي تنوع الأصناف في القوطية، سواء مسلسلات جدلية احتلت الشاشة الفضية، أو أفلام وثائقية تنقب عن الصوت المكبوت والمدفون لتلك الآلام التي عاشها الشعب معًا، لترويها من جديد.
فكل تلك الأعمال إذن قَدَّمت فرصًا عديدة لدراسة مختلف الأصوات المجتمعية، أو توحُّدها في رؤية الماضي مُصوَّرًا من حروب وصدمات وغيره، خلال نصف قرن من التغييرات. وجاءت معظم تلك عند تحوُّﻻت في المفاهيم وإعادة مراجعة لما تعنيه الثقافة، وما يميز الفرد بعيدًا عن السياسات والقوميات الدينية، وهو تاريخ الفرد القوطي. لذلك على النقاد إدراك أن تلك الأعمال قدمت إشارات بصرية قوطية للثقافة، كما تعبر عن نفسها بعد فترة من الجروح الوطنية كحروب وفترات فكرية. حيث يرى نقاد القوطية عادة فترة مثل هذه كالبوح في إعادة كتابة الصدمات مهما كانت جدلية، والجهود المقدمة في تقديم صورة أفضل للمجتمع، لينطلق إلى ما بعد الصدمة، ويُدوِّن تلك الذكريات، ويُوثِّق الجراح، كقصص الحروب مهما كانت مؤلمة أيضًا فإنها حالة تعبر عن المضي قدمًا. حيث شكلت تلك الأحداث التي لا مفر منها الثقافةَ السعودية على مدى ثلاثة عقود من السبعينيات إلى التسعينيات. فالقراءات النقدية تسعى لفك الرموز تلك، للتعرُّف على الصوت الكامن للثقافة القوطية في المملكة العربية السعودية.
هذا التحول إلى القوطية الوطنية لا يقتصر على المملكة العربية السعودية وحدها، بل ذُكِر كمثال على استخدام الشعوب للقوطية الوطنية كنمط وأسلوب تعبير بعد تغيُّرات واضطرابات وتحوُّﻻت. فقد اجتاح التعزيز القوطي القومي والوطني المشهد العالمي الثقافي بشكل كبير، لنرى الدول العربية في شمال إفريقيا ما بعد الخريف العربي مثلًا تسعى لأن تعزز صوتها القوطي الوطني الفريد. وعلى غرار ذلك الانقسام في الاتحاد الأوروبي، جاء ليعزز الأصوات المغايرة للقوطية الأوروبية ليس كصورة وكيان واحد مهيمن بل له أصوات عدة مثل الآيرلندية والأسكتلندية التي تسعى لتعزيز فرادتها وأصالتها عن تلك الإنجليزية البريطانية، حيث نرى أحيانًا الجدليات حول أصول العديد من الأساطير القوطية والأزياء والتصويرات والآثار. عوضًا عن هذا كله فكل شعب وتاريخ وصوت يتميز بحالة قوطية فريدة؛ فهناك من هرب من حروب ولجأ، وهناك من آوى وشاهد وتضرر، فكلا الطرفين مشترك في الصدمات لكنَّ الزوايا تختلف. بالرغم من تلك الاختلافات والنبرات في الأصوات والتصويرات للصدمات تبقى القوطية هي القالب الأم الذي يعطي شكلًا لوحوش الماضي وينبش عن أشباح تم دفنها، ويُعبّر عن أصوات عفى عليها الزمن؛ ليسطر تاريخ الشعوب حتى المؤلم منها والصادم.