حاورته: بلقيس الأنصاري
تحدث المخرج السوداني «محمد كردفاني» في حوار خاص لموقع «سوليوود» السينمائي، عن النجاح الكبير الذي حققه فيلمه «وداعًا جوليا» على المستويين الفني والجماهيري، حيث حصد جائزة «الحرية» من الدورة الـ76 لمهرجان كان السينمائي الدولي، بالإضافة إلى 34 جائزة من مهرجانات أخرى بينها 10 جوائز من الجمهور. كما تطرق في حديثه إلى رحلته في عالم الفن وتحوله من دراسة هندسة الطيران إلى السينما وصناعة الأفلام، وتناول أيضًا التحديات التي تواجه صناعة السينما في السودان.
وإليكم نص الحوار..
1- الكاتب والمخرج والمنتج محمد كردفاني، يسعدنا ويشرّفنا استقبالك لإجراء هذا الحوار، بدايةً حدّثنا عن بدايات اهتمامك بالسينما، وعن قصة تحوّلك من هندسة الطيران إلى صناعة الأفلام.
يصعبُ عليَّ دومًا الإجابة عن هذا السؤال؛ إذ أردت الدراسة في كلية الفنون الجميلة بعد المرحلة الثانوية، لكن والدي رفض ذلك؛ فدرست مجال الطيران الذي كان يعمل به هو. وفي الجامعة بدأت كتابة القصص القصيرة، لكنّها لم تلقَ رواجًا خارج دائرة صغيرة من القُرّاء. وبعد التخرّج تعلَّمت التصوير الفوتوغرافي، ومن ثمّ المونتاج. وكلّها كانت مجرد هِوايات أمارسها في أوقات الفراغ أثناء عملي كمهندس طيران بدوامٍ كامل.
والحقيقة أنّ فكرة دمج تلك الهِوايات قادتني لصناعة الفيلم كوسيط بديل عن المادة المقروءة لحكاية القصص. وأعتقد أنّ قدراتي في كل من: الكتابة والتصوير والمونتاج – بالرغم من تواضعها في ذلك الوقت – ساهمت بشكل كبير في إنجاز المشاريع؛ إذ لم أحتج إلى فريق عملٍ أو تمويلٍ كبير، ما كنت أحتاجه حصلت عليه أمام الكاميرا فحسب. وأثناء الكتابة كنت أضع ذلك في الاعتبار، حيث وظَّفت الموارد والمواقع المتاحة لي بشكلٍ مجاني؛ ما جعلني بشكلٍ غير واعٍ أقوم بدور المُنتج الحصيف أيضًا.
وفي عام 2014، شاركت في دورةٍ لصناعة الفيلم المُستقل، وكان فيلمي القصير الأوّل «ذهب ولم يعد» ضمن مُخرجاتها. ومن ثمّ فيلم «نيركوك» عام 2016، الذي اُختير للمنافسة في الدورة الـ27 لمهرجان قرطاج السينمائي الدولي، وحصد على هامشه جائزة «ناس» لأفضل فيلمٍ عربي قصير. تلك المشاركة كانت نافذتي على عالَم صناعة السينما المستقلة؛ باعتبارها المرَّة الأولى التي أتعرّف فيها إلى سينما العالَم، بعيدًا عن سينما هوليوود، وسينما بوليوود، والسينما المصرية.
2- ما الهمّ المشترك الذي منحه المَهجر لصُنَّاع السينما السودانية المعاصرة لتجسيد معاناتهم، في محاولةٍ منهم لخلق موجة سينمائية فنية إنسانية مُستقلة، تضعهم في مصافّ صُنَّاع السينما العالمية؟
لا أعلم إن كنت أُصنِّف نفسي من سودانيي المهجر؛ فقد وُلِدتُ وترعرعتُ في الخرطوم. وبالرغم من عملي في البحرين لسنواتٍ عديدة، فإنني زرتُ السودان كثيرًا. لكن نظرًا لطبيعة عملي في الطيران كنت أيضًا كثير السفر، وقد جعلني ذلك منفتحًا على ثقافاتٍ مختلفة ومعايير عملٍ أعلى، وربما أملٌ في مستقبلٍ أفضل لي وللسودان.
هناك شيء ما يعتريك عندما تدرك أنك تفتقد الكثير في بلدك، وأنك كإنسان تبدأ خلف خطّ البداية، الذي يبدأ منه الآخرون بأمتارٍ كثيرة. ففي دولةٍ نهشتها الحرب لعقودٍ متتالية، ستجد أنك لا تملك الحد الأدنى من أساسيات الحياة: تعليم وصحة ومؤسسات خدمية، فضلاً عن الفن والتكنولوجيا. لكن ذلك الشعور نفسه – أحيانًا – هو مَن يدفعك لمضاعفة جهودك في العمل؛ لكي تَلحق بالركب.
وغياب الدعم الحكومي والمؤسَّسي، بالإضافة إلى معاهد السينما، ساهم في تضافر جهود مَن لهم اهتمام بصناعة الأفلام، لحكاية قصصهم مع العالَم؛ ما أدى بشكلٍ كبير إلى نجاح الحركة السينمائية الأخيرة في السودان.
3- كمخرج مؤلِّف لفيلم «وداعًا جوليا»، ما الخصوصية السرديَّة التي فرضتها التعدديَّة على الأحداث التي عاشها المجتمع السوداني ضمن السياق التاريخي العام للفيلم؟
أظن أنّ التعدديَّة في نفسها ليست شيئًا سيئًا. باعتبار أنّ تعدد الثقافات والأعراق والأديان، يمكن أن يكون ميزة وقوة للمجتمعات. وفي الفيلم احتفيتُ بذلك عبر الموسيقى والأزياء والديكور. لكن المشكلة تكمن في محاولة فرض هويَّة معينة – في حالة السودان – على دولةٍ تحوي ذلك التعدد الثقافي. لذا – في اعتقادي الشخصي – أدى ذلك إلى الحرب، وساهم أيضًا في استمرار حالة الاستعلاء العِرقية والدينية، التي خلَّفها الاستعمار، وتاريخ طويل من تجارة الرِّق. ولم يكن مقتل الدكتور «جون قرنق» سوى شرارة الانفجار وليس وَقوده.
4- من خلال نقدك السينمائي، كيف شكَّل «التعايش لا التصالح» المفتاح الرئيس لكل التفاصيل الإنتاجية لفيلم «وداعًا جوليا» باعتباره المحور الذي بُنيت عليه أداور الشخصيات الدراميَّة؟
الحقيقة أنّ العكس هو الصحيح. فقد حاولت من خلال الفيلم أن أدعو إلى التصالح لا التسامح أو التعايش؛ فالتصالح يحدث بين الأطراف المتنازعة، ولا بدَّ أن يشمل اعترافًا بالخطأ بجانب النيَّة لعدم تكراره، والأهم خطوات عملية لمنع حدوثه في المستقبل. بينما التسامح أو التعايش يمكن أن يكون قرارًا فرديًّا يتخذه الشخص ليعيش، وذلك ما كان يفعله كثير من السودانيين المُهمشين، أو الذين يعانون كل أشكال القمع العِرقية أو المجتمعية.
5- في مرحلة اختيار الشكل الجمالي لفيلم «وداعًا جوليا»، كيف ساهم إسناد الدور لشخصية من عمق الخلفية الثقافية نفسها في تقديم واقع مؤثِّر؛ بالتوفيق في اختيار «إيمان» الشمالية و«سيران» الجنوبية؟
اعتقدت أنّ ايمان وسيران كانتا الخيَار الأنسب للدورين؛ لأنّ إيمان قضت حياتها في الخرطوم، وقد عايشت أحداث الفيلم، وهي لصيقة بالثقافة السودانية، وبالانفصال كذلك. فيما قضت سيران طفولتها كاملة في الخرطوم، ثم سافرت قبيل الانفصال، وقد ساعدها ذلك في فهم تعقيدات شخصية «جوليا». بجانب ذلك، كانت لديهما الموهبة والثقة والالتزام والإصرار على تقديم مستوى عالٍ. كما أنهما تصادَقتا في الواقع؛ فظهرت الكيمياء والحميمية بينهما في الأداء جليَّة على الشاشة.
6- «إذا أردت أن تصنع فيلمًا، فاصنع فيلمًا حقيقيًا؛ ليشاهده الناس»، من منطلق رأي السيناريست بول شريدر، ما الدور الجذري للكتابة الجيدة الواعية بجانب عنصر التوقيت في خلق تجربة سينمائية فنية ثريَّة تستحق المشاهدة؟
لا يمكنني الادعاء بعلمي باندلاع الحرب بعد شهرين أو ثلاثة من بدء التصوير، ولكن الفيلم دقَّ على ناقوس الخطر، وتنبَّأ بحتميتها العاجلة أو الآجلة؛ لأنّ الأسباب التي أدت إلى كل الحروب التي مضت ما زالت قائمة. وما حدث في السودان – بالنسبة إليَّ – كان عاملاً محفزًا لمواصلة العمل على فيلم «وداعًا جوليا»؛ باعتباره رغبة شعبية جامحة ونهمة في تغييرٍ ثقافي ومفاهيمي جذري، وذلك ما عوَّلت عليه وأنا أكتب فيلمًا قد يبدو لاذع النقد للمجتمع في فترةٍ لا تنعم بالاستقرار السياسي والاقتصادي.
لكن أهمّ من التوقيت – في رأيي – هو الصدق في تناول المواضيع بجانب نقد الذات. وأعتقد أنّ المُشاهد قادر على تمييز نيَّة صانع الفيلم بعد مشاهدته. وقد كانت إحدى نواياي، كمخرج وكاتب وكفريق، مُنطلقة من مسؤوليةٍ شعرنا بها كفنانين وشهود على تلك المرحلة المفصليَّة من تاريخ السودان، أن نوثّقها من الجانب المجتمعي للأجيال التي ستعقب جيلنا، والتي قد تتساءل عن سبب انقسام السودان إلى بلدين، وحينها لن يجدوا سوى الأخبار والإحصائيات، وربَّما بعض الكتب والمقالات التي لن ترسم صورة متكاملة؛ لذا استلزم صُنع الفيلم الكثير من البحث والتدقيق في كل التفاصيل.
7- ما بين الصورة والمضمون والحدث والموسيقى في فيلم «وداعًا جوليا»، كيف بنَى اللون السينمائي بحد ذاته بُنية سينمائية موحَّدة ساهمت في تكثيف التجربة النفسية والعاطفية للفيلم؟
أردت للصورة أن تكون جمالية بقدر قربها من الواقع؛ لذا عملت مع فريق الأزياء والديكور ومدير التصوير خلال التجهيز، ومع الملوّن خلال عملية ما بعد الإنتاج على اختيار باليتة ألوان شبيهة ببيئة السودان الترابية. كما حاولنا عكس الحالة المزاجية للفيلم والحالة النفسية للشخصيات عبر الإضاءة والألوان. وكثيرًا ما كنَّا نستخدم الظلّ بديلاً من الضوء أو الصمت بديلاً من الصوت، أو أن نُضفي ألوانًا باهتة على المَشاهد الكئيبة، وأخرى مُشبعة لإضافة البهجة على بعض المَشاهد.
وكذلك في الموسيقى، حيث عمل مازن حامد على أغاني الفيلم بشكلٍ خاص؛ لتخدم الحالة المزاجية أو تُظهر التناقض بين شاعريَّة هوَانا الشخصي وجفاء واقعنا المجتمعي. لذا، اختيار موسيقار سوداني للعمل على فيلم «وداعًا جوليا»، كان مُهمًا جدًا.
8- بالنسبة إلى نجاح العرض الأوّل لفيلم «وداعًا جوليا»، إلى أيّ مدى يشكّل الوعي بدور العرض بجانب خبرة المشاهدة السينمائية في نجاح الأفلام الفنية في شبَّاك التذاكر؟
أنا مؤمنٌ بضرورة سَدّ الفجوة بين ما يُعد «سينما فنية» وما يُعد «سينما تجارية»، خاصةً في السودان والدول الصاعدة في المجال السينمائي، التي ليس بها صناعة سينمائية قديمة. ومؤمنٌ أيضًا بإمكانية تحقيق ذلك، من خلال إنتاج أفلامٍ ذات قيمة فنية عالية يمكنها المشاركة في مهرجانات سينمائية عالمية، وأن تنجح جماهيريًا في الوقت نفسه. وهذا ما حاولنا تحقيقه في فيلم «وداعًا جوليا». وأعتقد أننا نجحنا في ذلك إلى حدٍّ بعيد؛ إذ حصد الفيلم جائزة «الحُريَّة» من الدورة الـ76 لمهرجان كان السينمائي الدولي، بالإضافة إلى أكثر من 34 جائزة من مهرجاناتٍ أخرى من بينها 10 جوائز من الجمهور. كما نجح جماهيريًا في صالات السينما في مصر وفي دول الخليج والآن في تونس، وهو يُوزَّع أيضًا في السينمات الأوروبية والأسترالية.
إنّ ما يُعد سينما فنية أو سينما مُستقلة في الدول الأخرى، ظهر نتيجة غزارة في الإنتاج ووجود سوق مستقر، ما أدى بدوره إلى مللٍ وتكرار في الثيمات والمواضيع، بجانب الرتابة في شكل الأفلام، وفي طريقة الحكي والاحتكار من قبل أسماء معينة وممثلين محددين للعمل في المجال السينمائي؛ ما خلق – في تلك الدول – حاجة ماسَّة لسوقٍ جديد «مُستقل» عن السوق الأوّل؛ يهدف إلى البحث عن التجديد ويقوم بالتجريب والمخاطرة نوعًا ما لسَد تلك الحاجة.
أمَّا في بلدٍ كالسودان، فأنتجت خلال تاريخها السينمائي 10 أفلام روائية طويلة، فأنا أجد أنه ليس من الحكمة إقصاء الجمهور المباشر وصناعة فيلم صعب الفهم أو بطيء الإيقاع أو سيرياليّ، فقط لإبهار لجان تحكيم المهرجانات السينمائية في بلدانٍ أخرى. بينما يمكنك أن تنتج فيلمًا جيّد الصُنع مع قصة مثيرة من واقع مجتمعك تعتمد في تفرّدها على محلّيتها أكثر من اعتمادها على استخدام تكنيكٍ باهر؛ لأنّ الأساس هو القصة والحدوتة والباقي مجرد محسِّنات. ونحن لدينا الكثير من القصص الرائعة التي لم تُحكى بعد.
9- ما الدور الخاص الذي أدَّاه الإنتاج الدوليّ المشترك في نجاح فيلم «وداعًا جوليا» بالرغم من التحديات التي تعرَّض لها في مراحل الإنتاج والتوزيع؟ وما أهمية تمويل حركات الإنتاج الجادة في تطور صناعة السينما الفنية الصاعدة عربيًا؟
الإنتاج الدولي المشترك في حالة فيلم «وداعًا جوليا»، لم يكن أمرًا اختياريًا. ففي دولةٍ لا تدعم السينما وليس بها سوق وصناعة، لا يمكنك تمويل فيلم بطريقةٍ أخرى إذا لم تكن مليونيرًا. ما يعني أنك ستخاطب جمهورك والجمهور العربي والعالمي أيضًا، لذا عليك كصانع فيلم أن تضع ذلك في الاعتبار بما فيه من تقييدٍ أحيانًا. لكن ذلك التقييد لا يعني بالضرورة التضحية أو المساومة في النظرة الفنية، وإنما قد يحتاج إلى جهدٍ أكبر لخلق موازنة سليمة.
وبالرغم من ذلك، فإن للإنتاج المشترك فوائد أيضًا، فجانب التمويل يساعدك كثيرًا على تطوير الفكرة والنصّ، ويفتح باب المشاركة الإبداعية وتبادل الخبرات، ويخلق للمخرج والمنتج شبكة من العلاقات المهنية في دول مختلفة، كما يساعد على انتشار الفيلم وتوزيعه خارج النطاق المحلي. لذا، أعتقد أنّ الإنتاج المشترك مفيد حتى لو لم يُشكّل التمويل مشكلة بحد ذاته، خاصةً لصُنَّاع الأفلام الجُدد.
أمَّا بالنسبة إلى دعم الأفلام العربية وأهمية ذلك، فأنا أعتقد أننا نعيش في زمنٍ أقوى سلاح فيه هو «السرديَّة»، وعلى كل شخص أو مجموعة أشخاص أو دولة أو إقليم، أن يخلقوا سرديَّاتهم الخاصة بجانب تصديرها للعالم، بما يتوافق مع أفكارهم ونظرتهم تجاه أنفسهم وتجاه قضاياهم. وإذا لم تخلق لنفسك سرديَّة؛ فسيخلقها لك طرف آخر. ما يشدد على أهمية الدعم الحكومي – على الأقل – حتى يشتد عود الصناعة السينمائية، وتصبح قادرة على الاستدامة بالاعتماد على السوق.
وفي هذا الجانب، أودّ أن أشكر شركة «ستيشن فيلمز» المُنتجة لفيلم «وداعًا جوليا» برئاسة المنتج أمجد أبو العلاء. وأن أشكر فريق عمل شركة «كلزيوم ستديوز»، التي قامت بتنفيذ الإنتاج في السودان بقيادة المنتج المشارك خالد عوض، وسامو حسين، وهند حسين. كما أشكر المنتجين المشاركين العرب: باهو وصفي الدين محمود، وعلي العربي من مصر، وفيصل بالطيور من السعودية، ومايكل هنريكس من ألمانيا، ومارك إيرمر من فرنسا، وإسراء الكوقلي من السويد.
10– هل تعتقد أن جائزة الحُريَّة التي مُنحت لفيلم «وداعًا جوليا» من الدورة الـ76 لمهرجان كان السينمائي الدولي، ستساهم بشكلٍ أو بآخر في إيصال الأصوات وخلق التحاور بين الشمال والجنوب من أجل سودان مُتحِّدة؟
لا أعتقد ذلك. ولم أصنع الفيلم كمحاولة لضمّ الجنوب للشمال مرة أخرى. فالجنوب الآن دولة مستقلة ذات سيادة، وهي في غنى عن الشمال ومشاكله الحالية. ولكنها دولة جارَة وشعبها شقيق للشعب السوداني، ومن المهم مَد جسور المحبَّة والإخاء بيننا.
والهدف من فيلم «وداعًا جوليا»، المحافظة على ما تبقَّى من السودان المُتحدة. فالمشكلة التي أدت إلى انفصال الجنوب ما زالت قائمة، وما زلنا نعاني مشاكل القبلية والعنصرية والتعصّب وأزمة الهويَّة وغياب العدالة المجتمعية والقانونية. والحرب الدائرة الآن أكبر دليل على ذلك.
11- من خلال النجاح النقدي الكبير لفيلم «وداعًا جوليا»، كيف يؤثّر النقد الفني الأصيل في تقدُّم أصالة الفن بجانب تطوير الأدوات المعرفية لجماليات وأساليب سرد اللغة السينمائية؟
النقد جزء أساسي من عملية تطوير الصناعة السينمائية وفنيّات السرد، وهو كذلك جزء رئيس من حالة الحوار والنقاش، التي يودّ الفنان خلقها في المجتمع، والتي قد تؤدي إلى تغييرٍ فني ما.
12- ما الأمل الذي منحته الإنتاجات المميزة مثل: «ستموت في العشرين» و«وداعًا جوليا» في الرفع من معايير الإنتاجات المحلية بالرغم من غياب بُنية تحتية سينمائية ذات معايير عالية في السودان؟
مع الحرب الدائرة الآن، والتي قد تستمر لسنين طويلة، أعتقد أنّ الحديث عن الأمل في خلق صناعة محلية مدعومة من مؤسساتٍ سودانية، هو حديث حالِم بعض الشيء. المهم الآن، هو الأمل في وقف الحرب والاستقرار السياسي والاقتصادي وعودة اللاجئين إلى ديارهم.. والسينما ستكون بعد ذلك بخير.
13- استنادًا إلى تأثير أغنية فيلم «وداعًا جوليا»: «قول لي كيف»، ما البُعد الوجداني السينمائي الخاص الذي يضيفه توظيف الموسيقى التصويرية بذكاء في إيصال التعبير اللّامرئي وتحقيق الاستجابة العاطفية للصورة؟
استخدام الأغاني في الفيلم كان خيارًا أقرب لما يحبّه الجمهور السوداني والعربي في السينما، مع أنه قد يبعد الفيلم – قليلاً – عن الدراما. لذا، حرصت على أن يكون من صميم الحكاية، وأن يدفع بالقصة إلى الأمام؛ وهو ما يُعد من أصعب الموازنات التي قمت بها في الفيلم. وأعتقد أنّ الأغاني في حالة فيلم «وداعًا جوليا»، خدمت الفيلم بشكل جيد في توحيد الجمهور مع الشخصيات، لكن ذلك لا يعني أنها ستنجح في فيلمٍ آخر؛ إذ لكل فيلمٍ خصوصيته.
14- هل يمكننا القول إنّ تجربة كتابة وإخراج فيلم «وداعًا جوليا»، نجحت في إعلان تقاربك الذاتي كمخرج وكفرد من الشمال مع الجنوب بواسطة السينما؟
لم أكن أعرف الكثير من الجنوبيين قبل الفيلم. والآن لديَّ أصدقاء من الجنوب. وأعتبر ذلك إنجازًا مُهمًا على الصعيد الشخصي. وقد قمنا، مؤخرًا، بعرض فيلم «وداعًا جوليا»، في العاصمة «جوبا»، وقد استقبل الجمهور الفيلم هناك بكل حفاوة، فيما استقبل سيران رياك بشكلٍ خاص كنجمة عالمية.
كما وصلتني الكثير من ردود الأفعال والآراء التي وجدت أنّ سرد الفيلم أنصفَ قضية جنوبيي ما قبل الانفصال. وهناك أملٌ في أن تستمر العلاقة الفنية بين السودان وجنوب السودان لأعمالٍ قادمة أخرى. والسينما فعلاً يمكن أن تخلق تغييرًا، وأن تُصبح أكثر من مجرد ترفيه، مع العلم أنّ الترفيه نفسه غاية كافية بحد ذاتها.
15- كلمة أخيرة، وهل هناك أعمال دراميَّة أخرى سنرى نِتاجها قريبًا؟
الآن، أُركز على تحويل مقرِّ شركة استوديوهات «كلزيوم» التي نفَّذت فيلم «وداعًا جوليا 2023» في السودان – التي أنا شريك مؤسِّس لها – من الخرطوم إلى الرياض؛ إذ نأمل في إنتاج أفلام سعودية لمخرجين سعوديين شباب بالتعاون مع شركات إنتاج سعودية. إلى جانب إقامة الشرَاكات الإقليمية والعالمية، والتركيز على تطوير النصوص، وتبادل الخبرات الإنتاجية التي طوّرناها بالرغم من ظروف العمل الصعبة في السودان. وأعتقد أنّ السعودية – مثل السودان – زاخرة بالقصص التي لم تُروَ بعد. أمَّا على الصعيد الشخصي، فأنا أطوّر نصًّا لمسلسلٍ تلفزيوني، قد يأخذ بعض الوقت قبل تحويله لمرحلة التمويل. شكرًا بلقيس على هذه الاستضافة.