د. وليد سيف
قد يدهشك العدد الذي يتم تخريجه سنويًّا في مصر من المتخصصين في مجال النقد السينمائي، سواء من المعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون أو من غيره من كليات ومعاهد السينما والإعلام الحكومية أو الخاصة، العربية والأجنبية. هذا إلى جانب من يمارسون هذا العمل باحترافية شديدة من غير المتخصصين. وقد يدهشك أيضًا المستوى المتقدم للبعض منهم إذا ما تابعت ما ينشرونه بين حين وآخر في دوريات أو مواقع متخصصة في النقد السينمائي، مثل مجلة الفيلم أو نشرات جمعية نقاد السينما المصريين أو جمعية الفيلم، أو دوريات ومواقع غير متخصصة، تُخصص مساحات للنقد السينمائي.
على الرغم من ذلك فلا نستطيع أن نقول إنَّ هناك حركة في مجال النقد السينمائي لها تأثيرها الفعال سواء على مستوى المجتمع الواسع أو حتى في أوساط المثقفين بوجه خاص، مثل التي سبق أن تحققت في الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، مع ظهور أسماء كان لها التأثير الكبير في مجال نشر الثقافة السينمائية، منهم سامي السلاموني، وسمير فريد، ويوسف شريف رزق الله، وعلي أبو شادي، ورفيق الصبان.
ربما يكمن جانب من المشكلة حاليًّا في عدم توافر المساحة الإعلامية والظهور التليفزيوني إلا لوجوه محدودة جدًّا في مجال النقد السينمائي، وغالبًا كضيوف في برامج غير متخصصة، على عكس ما كنا نشهده في الماضي من برامج كانت تُسهم بشكل قوي في نشر ثقافة هذا المجال، كان يعدها ويقدمها نقاد متخصصون مثل «سينما نعم.. سينما لا» أو «الأوسكار» وغيرهما، وكذلك برامج أخرى متخصصة كانت تستضيف النقاد السينمائيين بصورة مستمرة لتقديم الأفلام والتعليق عليها، ومنها: «السينما والحرب» و«نادي السينما».
لم تعد مثل هذه البرامج موجودة على أي خريطة في أي قناة من القنوات، ولا يوجد في هذا المجال سوى برامج خفيفة تتحدث عن أخبار الأفلام أو النجوم أو كواليس الصناعة، أو عن تراجع أو انخفاض مستوى الإيرادات.. برامج لا يشارك في إعدادها نقاد ولا يظهرون فيها كمتحدثين أو كضيوف.
لكن حقيقة الأمر أن التليفزيون لم يعد صاحب التأثير والسطوة وحده، إنما أصبحت المواقع الإلكترونية والسوشيال ميديا لها تأثيرها القوي والواضح. بالتأكيد هناك بعض المجتهدين في هذا المجال، يقدمون خدمة جيدة في التعريف بالأفلام العربية والأجنبية لكن طبعًا وغالبًا بالأسلوب السهل السريع الذي يناسب مثل هذه الوسائط وجمهورها، سعيًا وراء تحقيق مشاهدة عالية، ما يتعارض غالبًا مع تقديم خدمة ثقافية جادة.
على أي حال لم تعد المواقع الإلكترونية بديلًا فقط للبرامج التليفزيونية، بل بديل أيضًا للصحافة الورقية التي تشهد تراجعًا منذ سنوات، بسبب سوء التوزيع ما دفع بعض المؤسسات الصحفية إلى دمج أكثر من إصدار في إصدار واحد، أو حتى التخفف من بعض الإصدارات، وكلها أمور أثرت بالتأكيد على مساحات تواجد النقد السينمائي المتقلصة أصلًا.
أما عن تأثر الحالة الإبداعية في مجال السينما بالعملية النقدية فهي من الأمور المثيرة للجدل، لكن لا شك أننا أيضًا في زمن سابق، كانت هناك هذه الحالة من التفاعل والتواصل بين النقد والإبداع، وصلت إلى ذروتها مع إنشاء جماعة السينما الجديدة في نهاية الستينيات التي ضمت عددًا من شباب الفنانين والنقاد بهدف النهوض بفن السينما في مصر.
أثمرت تلك الجماعة بالفعل عن ظهور جيل جديد من الفنانين وعدد من الأفلام التي أسهمت في تغيير وجه السينما، وإيجاد ما يمكن اعتباره سينما بديلة، فشاهدنا أفلامًا مهمة كنتاج لهذه الجماعة، منها أغنية «على الممر» لعلي عبد الخالق و«الظلال على الجانب الآخر» لغالب شعث، مهَّدَت هذه الأفلام الطريق لما تبعها من محاولات جادة للخروج عن الأنماط التجارية المألوفة والسائدة في الفيلم المصري.
تلك الأنماط التي أصبحت تتقلص في توليفة كوميدية منقولة من مسرح الهزل الخالص أو مستنسخة من أفلام الحركة الأمريكية، وهي التوليفة التي ربما كان يعتقد المنتجون أنها تحقق لهم الأمان الربحي في ظل الربحية المحدودة للفيلم، التي أعتقد أنها في السنوات الأخيرة شهدت طفرة كبيرة بسبب تزايد دور العرض وارتفاع أسعار التذاكر في بلاد شقيقة وعلى وجه الخصوص المملكة العربية السعودية التي تشهد دور العرض بها حالة من التدفق والتزاحم لجمهور كان في حالة من التعطش لمثل هذه الحالة السينمائية.
ربما بفضل تزايد إيرادات الفيلم المصري سوف يتجه المنتجون إلى الخروج عن النمط والبحث عن أشكال جديدة أو تجارب سينمائية مختلفة بالمعنى البسيط للتجريب، وهو ما قد يساعد على تحسين مستوى الفيلم المصري مستقبلًا.
بالتأكيد لم تشكل الأعمال الجيدة نسبة كبيرة في الإنتاج السينمائي المصري في أي زمن سابق، لكنها على الأقل شكَّلت في سنوات مضت نسبة ما، أسهمت في تحريك المياه الراكدة وتجديد دم السينما لصالح الفن والتجارة في الوقت نفسه، لكن واقع الأمر اليوم أن هذه النسبة تكاد تكون غائبة عن الإنتاج السينمائي المصري الخالص، والنزر اليسير الذي يمكن أن تشاهده من أفلام ترقى لمستوى النقد هو في الغالب إما من أعمال الإنتاج المشترك وإما ممّا يمكن أن يُطلَق عليه الأفلام المستقلة، وهو أيضًا عدد محدود جدًّا من الأفلام لا يمكن مقارنته بما تنتجه السينما التقليدية التجارية، وبنسبة لا تتجاوز في أغلب الأحوال عشرة في المائة من الإنتاج السنوي الذي يدور منذ عدة سنوات بين ثلاثين أو أربعين فيلمًا على أقصى تقدير، لا نجد من بينها منذ سنوات سبعة أفلام تستحق أن تشارك في مهرجان جمعية الفيلم السنوي، ولا خمسة أفلام تصعد للقائمة القصيرة للترشيح لمسابقة الأوسكار كتمثيل للسينما المصرية.
لا شك أن المتلازمة أو العلاقة الطردية بين الإبداع والنقد تؤثر كثيرًا في الحركة النقدية؛ فندرة الأفلام المصرية الجديرة بالنقد تؤثر بالتأكيد على الحالة النقدية، وتتسبب في عدم انتظامها واستمراريتها. وإذا كان البعض يجد البديل في الأفلام الأجنبية، فإنه غالبًا سوف يجد مراجعات أكثر دقةً وعمقًا من مواطني صناع هذه الأفلام، وأكثر قدرةً على فهم لغتها والشفرات المحلية المتبادلة داخلها.
إن النقد السينمائي في مصر في حاجة إلى كيان كبير قادر على استقطاب نقاد السينما من مختلف الانتماءات والاتجاهات، ربما يجدر الآن إعادة التفكير في إنشاء اتحاد الجمعيات السينمائية، تلك التجربة التي تعثرت قبل أن تبدأ لأسباب لا داعي لذكرها، لكنها أصبحت اليوم مسألة مُلحَّة لتحقيق حركة نقدية جديدة وقادرة على التأثير عبر توحيد الجهود وإيجاد الحلول وتوفير سبل النشر بشكل موسع عبر مختلف الوسائط الحديثة والمستحدثة.