د. محمد البشير
السينما من أكثر الفنون تأثيرًا إن لم يكن أكثرُها! ويزداد تأثيرها يومًا بعد يوم بفعل تقنيات العرض، ورفاهية المقاعد والتجربة، وكل الوسائل التي تبذلها دور العرض، وتتفنن في ذلك لاقتناص المشاهدين، وزيادة حجم مبيعاتها، والسعي بجدٍّ ودون توقف، وهذا ما يجعل المتلقي في محل إبداء الرأي والتعبير، فلا خصوصية لأحد على مقاعد السينما، فكل الحضور يخضع للقدر نفسه من الضوء، وإن اختلف في التعبير لاحقًا عن التجربة سلبًا أو إيجابًا فكلها ردود فعل لها قيمتها.
ولادة الصغرى
كتبت فرجينيا وولف عام 1926 مقالتها في مجلة نيويورك للفنون عن السينما الصامتة وقتها معبرة عن سحر السينما وبراعتها الهائلة والتقنية العظيمة. وفي ذلك الوقت الذي لا يزال الضوء يحبو، ترى فرجينيا وولف الجمال في السينما، تبصره ولكن لا تعرف تحديده، فالأمر غريب. فعندما تقارن فرجينيا وولف جمال الفنون بالسينما ترى الفنون ولدت عارية بينما «ولدت هذه الصغرى بثيابها الكاملة. يمكنها أن تقول كل شيء قبل أن تنطق بشيء».
القط النائم
ما شعرت به فرجينيا وولف يتكرر عند كل زيارة لدار السينما، فبعد خروج الناقد الفرنسي رولان بارت ذات مساء من السينما اعترف بمحبته للخروج إلى شارع مضاء وفارغ إلى حدٍّ ما، متجهًا بخطوات بطيئة إلى أحد المقاهي، صامتًا، مسترخيًا قليلًا، متلفِّعًا، بردانَ، باختصار «نعسان»: يشعر بالنعاس، وهذا هو ما يفكر فيه؛ لقد أصبح جسده إلى حد بعيد خدِرًا، هشًّا، وديعًا: خاملًا مثل قط نائم، فهذا الوصف الذي دونه في مقالة له هو ما يريد إيصال أثره، والتعبير عنه بالتنويم المغناطيسي الذي يمتلكه الفيلم بفعل دار السينما، وما زلنا نتحدث عن السينما في زمن رولان بارت المتوفَّى عام 1980، فما بالك بهذا الزمن؟!
هل هذا ما يشعر به كل زائر؟ أم أنها مبالغة الأدباء والنقاد والحالمين من قبيلتهم؟ وهل نحن في الألفية الثالثة نعيش هذا السحر؟ أم أن تكرار التعرض للسحر يُفقدَ المسحورَ الحسَّ، ويصل إلى درجة الاعتياد أو عدم الاستشعار بهذا الأثر؟
التنويم المغناطيسي
لم تترك دور السينما الأمر للاختيار، ففي السويد أخضع يوناس هولمبيرغ مدير مهرجان غوتنبرغ السينمائي الجمهور إلى جلسة استباقية للتنويم المغناطيسي تسبق عرض الفيلم، فقام المنوّم المغناطيسي فريدريك برايستو بجلسته الاستباقية، وبعدها شاهد الحضور الفيلم، وعند الانتهاء من الفيلم أبدى الحضور أثر ذلك بتركيز قوي على الفيلم، فالمحطة التي وصلوا إليها من النوم خلّصتهم من كل المشتتات المحتملة في صالة العرض، فلا صوت يعلو على صوت أبطال الفيلم؛ بل تجاوز الأمر ذلك بالدخول إلى الفيلم، وتجربة لمس الأقمشة والجلد، وشمّ الروائح، ووصلوا إلى هذا المستوى الحسي بفضل الاندماج الكلي بما يحدث على الشاشة، بفضل دخولهم وسطها، فلا غرابة من عيش الفيلم كاملًا بكل ما يمتلكه المُشاهِد من حواسّ.
شركاء النجاح
كل هذه الحالات تدعو إلى معرفة ما لهذه الشاشة الكبيرة من تأثير، وقدرتها على رفع عدد المسحورين بهذه الصغرى التي ولدت بثيابها كاملة، وما زالت تكبر محافظة على نضارتها، مقدرة كل من سُحِر بها، فكتابات فرجينيا وولف انتقلت إلى السينما بفيلم السيدة دالوي «Mrs Dalloway» عام 1997، والساعات «The Hours» عام 2002، وأورلاندو «Orlando» عام 1992، وعام 2019 وعام 2021، وغيرها من أفلام ومسلسلات، فلم تعد وولف متلقية؛ بل مرسلة من خلال ما كتبته، ولهذا كان الأديب شريكًا بطريقة أو بأخرى من خلال العلاقة المتبادلة ما بين الكتابة والأفلام، فهو مؤثر ومتأثر، فالسينما فرضت نفسها كمكون ثقافي ومعرفي وترفيهي لا غنى عنه، والأديب والناقد واحد من هؤلاء؛ فضلًا عن العلاقات المشتركة ما بين الأدباء والنقاد والسينمائيين في العالم، فرولان بارت الذي ظل أيقونة في عالم النقد، كانت تربطه علاقات بمخرجين من أبرزهم المخرج الإيطالي Michelangelo Antonioni ميشيل أنجلو أنتونيوني، الذي وثّق هذه العلاقة برسالته الشهيرة «عزيزي أنتونيوني» وتبادل شجون الفنان والمبدع ومكانتهما في سلّم السلطة الاجتماعية وتشجيعه لأنتونيوني على استغلال ما وصل إليه ما دام هناك من يعترف ويحب أعماله، وهو الحاصد لعدد من الجوائز، والمقدّر عالميًّا.
أثر المسحور
لم تكن علاقة رولان بارت في مقام المسحور دون أثر، فكتاباته عن الأفلام باقية، فلا يوجد أي حاجز ما دام يرى الفيلم نصًّا إبداعيًّا، فهو لم يفرق في دراسة العلامات، واتخذ من الحياة كاملة ميدانًا للتناول بوصفها سردًا، فالمسرودات في العالم عند بارت «لا تُعد ولا تحصى»، وسمى السينما ضمن ما سمّاه، فـ«المسرود موجود بكل أشكاله، وفي جميع الأزمنة والأماكن والمجتمعات؛ بل إن المسرود بدأ مع فجر البشرية». ومن كانت هذه رؤيته فلا غرابة عندما أولى الأفلام السينمائية نصيبًا من نقده، وتناولها دون أن يضطره شيء إلى القول بقدر ما تستفزه لقطة، أو يلفته فيلم أو أسلوب مثل أسلوب الروسي أزينشتاين، وتناول البعد الثالث في مقاله «المعنى الثالث: ملاحظات على بعض لقطات أيزنشتاين». ولبارت وقفات طويلة مع الصور، فهو يعتني بالصورة، وهي الوحدة الصغرى في الفيلم لو تم تحليله إلى عدد من الفريمات، وتم تناول كل إطار على حدة، وهذا ما يبرع فيه رولان بارت، وما يُحبذ لكل متلقٍّ من ترك أثر في هذا الفضاء: «تعليق على معرّفك، مقطع مرئي في وسيلة تواصلك، تغريدة على منصة X، أي أثر تعبّر به عن رأيك في الفيلم»، فحتى رولان بارت الذي لم يحبذ الحديث عن الفيلم فور خروجه منه؛ لم يصمت طويلًا، وعبّر عن ذلك لاحقًا.
من أنا؟
هذا السؤال قفز في ذهن رولان بارت، وصنّف نفسه مقلَّا في زيارته للسينما، فهو يزورها «مرة في الأسبوع»، وهي مدة انقطاع طويلة في رأيه آنذاك، وكانت كافية للتعبير عن الرأي، فلا مقياس أو شرط للتعبير عن الرأي، فكل المشاهدين سواسية في المشاعر أمام أبواب السينما، كما يقول أحمد مطر في رائعته التي أختم بها:
– أحيانًا يخرجونَ ضاحكين،
وأحيانًا.. مُبلّلين بالدُّموع،
وأحيانًا.. مُتذمِّرين.
ماذا يفعلونَ بِهِم هناك؟!
تتساءلُ
أبوابُ السينما.