د. وليد سيف
شارك فيلم «اختيار مريم» لمحمود يحيى ضمن أربعة أفلام في مسابقة الفيلم المصري بـ«مهرجان الإسكندرية» لدول البحر المتوسط في دورته التاسعة والثلاثين، التي انعقدت من 1 حتى 5 أكتوبر 2023، والحقيقة أنه بمجرد عرض هذا الفيلم ثارت التساؤلات حول أسباب عدم اختياره للمشاركة في المسابقة الدولية التي لم يشارك فيها فيلم مصري واحد، فكلنا نعلم أن وجود فيلم مصري في مسابقة دولية بمهرجان وطني يُعدّ أمرًا مهمًّا، فكيف تجاوزت إدارة هذا المهرجان عن اختياره؟ ولماذا لم تمنحه لجنة التحكيم جائزة أفضل فيلم مصري على الرغم من أنه حصل على نصيب الأسد من جوائز المسابقة: أحسن إخراج وأحسن ممثل وأحسن ممثلة؟!
تأتي افتتاحية الفيلم مع الاختيار الصعب الذي تواجهه البطلة الأم المكافحة مريم حين يعرض عليها مخدومها مليون جنيه مقابل تخليصه من آلامه وعجزه بالقتل الرحيم. يتزايد شعورنا بصعوبة الاختيار حين تنتقل الأحداث إلى بيت مريم ونتعرف على أسرتها التي يعاني معظم أفرادها مشكلات اقتصادية طاحنة، فزوجها أهدر ثمن بيع السيارة ولم يعد بالإمكان تجهيز الابنة الموشكة على الزواج، والابن يلح على والده ليشتري له توكتوك بدلًا من بقائه عاطلًا، والابنة الكبرى لا تكاد تتواجد في البيت بحجة البحث عن عمل، فهل تستسلم مريم لإغراء المال من أجل إنقاذ أسرتها، أم أنها ستتمسك بالرفض أيًّا كانت النتائج.
سؤال درامي قوي وساخن وكفيل بجذب المُشاهِد للمتابعة بمنتهى الحماس، خاصة وطبيعة الشخصيات والحبكة تطرح خريطة ثرية ومواقف درامية قوية تتسع بمحاولة السيناريو لعرض مشكلات الأبناء في مراحل عمرية مختلفة، من مراهقين ومراهقات وفتيات فاتهم سن الزواج، أما الأب فرغم تقدم العمر ما زال يتصيد النساء ولو من أقرب الأصدقاء.
يحقق المخرج محمود يحيى فيلمه بأقل الإمكانيات، فغالبية الأحداث تدور في شقة العائلة وبعضها في شقق متواضعة مماثلة، لكن الحيوية تدب في أوصال الفيلم بفضل هذا الرسم الحركي والانفعالي للممثل وثراء المشاهد دراميًّا بتصاعد الحوار بدرجات محسوبة حتى تنتهي إلى ذروة غير متوقعة.
يعرض الفيلم الأحداث بأسلوب ذكي ويتلاعب بالزمن بمهارة عبر السيناريو والمونتاج بالتقديم والتأخير في أكثر من موضع من أجل إضفاء بعض الغموض لبعض الوقت، كما رأينا حين عاد الأب إلى البيت مصابًا ثم نعود من خلال ومضات فلاش باك لنعرف سبب إصابته وما وقع عليه من اعتداء وسرقة، وكذلك في الانتقال بين المشهد المستقبلي التخيّلي للفتاة حين ترى عريسها يتقبل ظروفها ليعقبه بالمشهد الواقعي ليكون موقف العريس على النقيض.
يمهد السيناريو لأفعال الشخصيات من خلال جمل أو إيماءات بسيطة مرهصة لكن غير كاشفة، يلعب فيها الممثل دورًا كبيرًا في التعبير المستتر وهو ما أجاده ببراعة الممثل محمد رضوان، وهو الممثل المحترف والوجه الوحيد المعروف في الفيلم، لكن الحقيقة أيضًا أن فريق التمثيل في معظمه كان على مستوى جيد، ولم نلاحظ فارقًا كبيرًا بين محترف وغير محترف في الأداء.
غالبًا يعود الفضل في هذا للمخرج الذي نجح في قيادة الممثلين واستطاع أن يحقق أسلوبية في الأداء التمثيلي من خلالهم وأولهم رشا سامي في دور الأم صاحبة الاختيار الصعب التي أدت دورها بانضباط انفعالي، بتفهم كامل ومعايشة للشخصية في أزماتها المختلفة، واستطاعت أن ترسم ملامح للشخصية وخطة انفعالية لها رغم توالي الأزمات على الشخصية.
يوظف محمود يحيى التكوين بأسلوب درامي حين يقسم الكادر إلى قسمين بأسلوب واقعي جدًّا. في المقدمة الابن في الصالة ينصت إلى الموسيقى عبر الهيدفون بينما الأب في النصف الآخر من الكادر في الممر في العمق، يتعرض لضرب مبرح دون أن يسمع الابن الاستغاثة، يكشف هذا المشهد بلغة سينمائية عن حالة الانفصال بين أفراد الأسرة والتباعد الشديد بين الأب والابن على الرغم من أنهما يعيشان تحت سقف بيت واحد.
وهو يوظف حركة الممثل بوعي شديد، فالحركة تأتي مرتبطة بالحالة الانفعالية وهو ما يحققه في مشاهد كثيرة منها مشهد حوار الابن مع صاحبه إلى جوار التوك توك، ينقطع الحوار فجأة بسبب صدمة الابن من كلام صديقه وحاجته للتفكير به ليتحرك بعيدا بعض الشيء ليلاحقه صاحبه لمواصلة الحوار مع تغيير الزاوية والقطع السليم. هذا التوظيف الحركي دراميًّا يعطي للصورة حيوية ويمنح التكوين المعنى المطلوب ويوظف حدود المكان بوعي وفي صالح اللغة السينمائية.
يتميز الفيلم ببعد غرائبي دون أن يخرج عن إطار الواقعية، وهو ما يتجلّى في قناع الفيل الذي يرتديه الابن الأصغر في المشاهد الأولى، لنكتشف لاحقًا أنه يضعه نتيجة خسارة رهانه مع صاحبه، وكنت أفضِّل أن يوظف المخرج هذه الأسلوبية أكثر من ذلك قليلًا، كموتيفة قد تفيد البعد الرمزي والجانب الغرائبي في إطار الموضوع الواقعي.
في مقابل هذه الجوانب الإيجابية هناك بعض السلبيات التي يتعلق معظمها بضعف الإمكانيات التقنية، خاصة فيما يخص عدم نقاء شريط الصوت وضعف الميكساج، فتتغلب أصوات الموسيقى والمؤثرات على الحوار بوجه عام، ما أفقد الفيلم جانبًا من واقعيته، كما اكتنف الغموض بعض المشاهد بلا ضرورة درامية بسبب ضعف الإضاءة، إلى جانب طول بعض المشاهد بصورة مخلة مثل مشهد الميكروباص الذي بدا كأنه مشهد مسرحي، كما أن نهايات بعض المشاهد جاءت أضعف من بداياتها وهي مسألة كان يمكن معالجتها في المونتاج إذا كانت المادة المصورة كافية، وجاء توظيف قصيدة محمود درويش مناسبًا لبعض اللقطات المصاحبة وغير متسق مع بعضها.
تتجمع مخاوف الأم وتصل إلى ذروتها قبل النهاية مع توالي اللقطات التخيلية لمصائب تلحق بالأسرة، وهو ما قد يدفعها إلى الاختيار الآخر.. هذا الأسلوب في التلاعب بين الحقيقة والخيال يجعل المشاهد في حالة ترقب دائم وانتظار ما يسفر عنه الموقف وهل هو حقيقي أم خيالي؟
ينتهي الفيلم والأسرة على مائدة الإفطار والابن الصغير يلقي بأسئلة دون إجابات «ماما ياسمين مش بايتة هنا من إمبارح.. ماما إنتي مش رايحة الشغل النهارده»، وهي نهاية في غاية الذكاء من وجهة نظري تؤكّد حالة التساؤل دون الأجوبة المسيطرة على الشخصيات والحالة العامة.
رغمًا عن بعض السلبيات يظل فيلم اختيار مريم عملًا جيدًا في فكرته وموضوعه وأسلوب معالجته وتميز الأداء التمثيلي لأبطاله، لهذا يظل السؤال قائمًا لماذا لم يختاره المكتب الفني لمهرجان الإسكندرية في المسابقة الدولية، وهو على الأقل يستحق المشاركة كفيلم مصري وحيد؟ ولماذا منحته لجنة التحكيم في المسابقة المصرية نصيب الأسد وحرمته من الجائزة الكبرى؟ وهي أسئلة أيضًا دون إجابات!