رامي عبد الرازق
بمرور الوقت تحول الفيلم التليفزيوني المصري «أنا لا أكذب ولكني أتجمل» إنتاج 1981 من بطولة أحمد زكي، وآثار الحكيم، وصلاح ذو الفقار إلى واحد من كلاسيكيات الأفلام المقتبسة عن الأدب، فالنص السينمائي الذي أنجزه ممدوح الليثي عن القصة القصيرة للكاتب إحسان عبد القدوس يُمكن اعتباره درسًا حقيقيًّا في فن الاقتباس، يُمكن للمتفرج العادي أو المحلل المتخصص أن يتوقف أمام الاشتغال الجيد الذي تمت صياغته انتقالًا من الحبر إلى الضوء.
صدرت القصة ضمن المجموعة الشهيرة «الهزيمة.. كان اسمها.. فاطمة» في بداية السبعينيات، والقصة نفسها تحمل تاريخ كتابتها «نحو عام 1972»، وتنشغل بطرح سؤال المظهرية التي هي إحدى سمات التفاوت الطبقي في أي مجتمع، فكلما اتسعت الفجوة بين الطبقات زاد اللجوء إلى المظاهر –الكاذبة أو غير الكاذبة- من أجل التجميل الاجتماعي الذي يحفظ للشخص الذي يقع في منزلة أدنى ماء وجهه النفسي والإنساني.
لا يتجاوز عدد صفحات القصة عشر صفحات، وقد صاغها إحسان في شكل أقرب للقطة الصحفية، وهو من كبار أساتذة الصحافة المصرية وربيب روزاليوسف الأم والمجلة، بل إننا نسمع صوته فيها كسارد وبطل رئيس وسط بطليها إبراهيم وخيرية.
إبراهيم شاب متفوق دراسيًّا، مثقف ولبق وجذاب وحلو اللسان، وحذاؤه يبرق دائمًا بصورة لافتة، وهو زميل خيرية ابنة الأستاذ الجامعي صديق الكاتب إحسان الذي تأتي الحكاية على لسانه وهي فتاة جامعية جميلة من أسرة راقية ماديًّا واجتماعيًّا. ولما كان إبراهيم هو نجم الكلية أو القسم الذي يتزامل فيه مع خيرية، ولما كانت خيرية هي أجمل فتيات المحيط الجامعي الخاص بإبراهيم، فلا شك أن التفوق والثقافة بالإضافة إلى الوجاهة المظهرية يجعلان من الطبيعي أن تتوج علاقتهما بقصة حب جميلة وهادئة ومباركة من كل من حولهما؛ سواء الكاتب أو عائلة خيرية، التي ترى في إبراهيم شابًّا من أسرة ريفية عريقة، تملك زمام أراضٍ لا بأس به، وأمامه مستقبل مشرق في المجال الصناعي حتى إنه يتعلم الروسية من أجل أن يفهم لغة الماكينات التي يتم استردادها من هناك والتعيين في الكلية معيدًا.
لكن فجأة وكنتيجة لمصادفة قدرية غير مرتبة يكتشف الكاتب الكبير أن إبراهيم هو ابن واحد من حفاري القبور الذين يقيمون في مقابر المجاورين وفي مصر هناك فئة سكانية ظهرت مع بداية السبعينيات تعيش في مدن الموتى نتيجة أزمة الإسكان والفقر الشديد، وأنه أخفى تمامًا مكان سكنه فيدّعي أنه يقيم في جاردن سيتي وأن أباه مزارع كبير مريض بقريتهم.
ولا يجد الكاتب بدًّا من أن يصارح خيرية ابنة صديقه، فإذا بها تُصدَم، ثم تحاول التعامل مع الأمر بشكل منفتح ومتحضر، ولكنها تظل تُخفي عن أهلها حقيقة أهل إبراهيم ومستواه الاجتماعي. وتنتهي القصة بخفوت نجم إبراهيم في حياتها تدريجيًّا، بينما يتساءل الكاتب هل من حق إبراهيم في ظل مجتمع مظهري وطبقي أن يُحاكَم بتهمة الكذب؟ أم أنه فعلًا يحتاج إلى أن يتجمل؟!
إضافة وإعادة تشكيل
ما فعله الليثي ككاتب سيناريو عقب عدة تجارب مهمة في التعاطي مع الأدب، أبرزها «ثرثرة فوق النيل»، و«الحب تحت المطر»، و«الكرنك» هو دمج لكل عناصر القصة المتاحة، وهي عناصر شحيحة جدًّا، دمج أقرب للإسالة، ثم إعادة صبها في قالب أكثر وضوحًا ودرامية من النص القصير.
بداية فإنَّ القصة كلها تأتي حوارية، إما على لسان الكاتب الذي يتعامل معها كلقطة صحفية، كما أشرنا أو من خلال حوارات متبادلة مع إبراهيم وخيرية، أنه يحكي لنا قصة الحب على اعتبار أنه طرف ثالث، ويكملها عقب مصارحة خيرية متسقطًا للمعلومات القليلة التي ترد له حين يلتقي ابنة صديقه.
قام الليثي بدمج شخصية الكاتب في السيناريو السينمائي وجعله والد خيرية في الفيلم، وبدلًا من كونه أستاذًا جامعيًّا في القصة لا يظهر على الإطلاق، أصبح في السيناريو عنصرًا مهمًّا ومؤثرًا كما في القصة، وأصبحت خيرية هي ابنة الكاتب الكبير، وقام بتغيير صوت السرد في السيناريو من الكاتب في القصة إلى راوٍ عليم أو شبه عليم، حيث يتحرك في الفيلم مع خيرية ومحيطها الأسري وزملائها في الجامعة وصولًا إلى إبراهيم نفسه، بعد اكتشاف حقيقته في لحظة معينة من قبل الأب الكاتب.
ثم قام السيناريو باستغلال مهنة حفار القبور وجعل إبراهيم يعمل بها بجانب كونه طالبًا جامعيًّا لكي يعين أباه ويعين نفسه، وهو ما كان يرفضه والد إبراهيم في القصة الأصلية، ولكن السيناريست استغله كنوع من زيادة الضغوط الاجتماعية والنفسية على إبراهيم، وعلى الكاتب والد خيرية عندما يرى إبراهيم وهو يساوي التراب فوق أحد القبور لأول مرة، وعلى خيرية نفسها فيما بعد حين تكتشف حقيقته.
ثم التقط السيناريو إشارة عابرة في القصة عن أن والدة إبراهيم تعمل غسالة وهي مهنة مشتقة من الخدمة المنزلية ولكنها متعلقة بالغسيل فقط وجعل منها خادمة تعمل في البيوت بأجر، ومن ثم زاد من استحكام حلقة الفقر الاجتماعي والتدني الشديد حول شخصية إبراهيم السينمائية؛ فصار أبوه حفارَ قبور وأمه خادمة.
ولما كان عدد الشخصيات محدودًا في القصة فقد مد السيناريو عالم النص على استقامته وقام بتفتيت شخصية الكاتب كما وردت في النص الأدبي إلى شخصيتين: الأولى هي الكاتب نفسه الذي أصبح والد خيرية، والثانية هي والدة خيرية التي أصبحت صوت المجتمع المتعالي الطبقي الذي يعبُد المظاهر. وحتى حين يحاول الأب الكاتب أن يقف نسبيًّا على الحياد عقب اكتشاف سر إبراهيم، وأن يترك لابنته المجال كي تقرر بنفسها هل تقبل أن تكون تلك هي عائلة زوجها أي حفار القبور والخادمة تصبح الأم على يمين القضية، ويعلو صوتها ماديًّا ومعنويًّا في الفيلم بالرفض التام، واتهام إبراهيم بأنه كاذب ونصاب ومدَّعٍ لأنه أنكر حقيقة أهله وأصله وخامته الاجتماعية.
وعملًا بمبدأ الإضافة في الاقتباس قام السيناريو بإضافة شخصيتين مهمتين هما: مايسة وأخوها هاني، وهما زميلان لإبراهيم وخيرية في الجامعة الوسط الجامعي الخاص بهم ثم قام بتشعيب الصراع بأن جعل مايسة الجميلة تقع في حب إبراهيم من طرف واحد لأنه يحب خيرية وجعل هاني أخاها المتنمر الشرير الفاشل دراسيًّا عكس نموذج إبراهيم تمامًا يحب خيرية أيضًا من طرف واحد، ومن ثم يدخل الشباب الأربعة في مثلثين عاطفيين معكوسين، وهو ما يزيد من حدة الصراع، ويجعل من اكتشاف حقيقة إبراهيم ذروة مفاجئة للجميع، وقنبلة موقوتة يفجرها هاني، عندما نكتشف أن خادمتهم مبروكة هي نفسها أم إبراهيم زميلهم المتفوق وألفة الدفعة وحبيب خيرية.
المصادفات الصدئة
استطاع السيناريو عبر إعادة بناء الحكاية ودمج وإضافة وتفتيت الشخصيات كما أشرنا إلى بلورة حقيقة السؤال الجارح الذي يواجه إبراهيم في النهاية، وهو سؤال هل كان يكذب أم من حقه أن يتجمل لدرء شبهات النظرة الدونية عن ذاته المتفوقة المثقفة في مجتمع لا يزن الناس إلا بالمال والأصل الاجتماعي.
في النهاية وبعد أن تخوض خيرية أكثر من زيارة لأهل إبراهيم عقب اكتشاف أن مبروكة هي خادمة هاني ومايسة وأم إبراهيم، يضع السيناريو لنا التصوُّرَ الواقعي لنهاية هذه القصة، وهي أن خيرية لن تتمكن من أن تهبط من الفيلا الفخمة والمستوى الاجتماعي والمادي الخارق الذي تعيش فيه إلى مدينة الموتى لزيارة حماتها المستقبلية، في غرفة تقع فوق مدفن، حيث يعمل والد إبراهيم.
تترك خيرية إبراهيم واقفًا بمفرده وسط عشرات المقابر، بينما يعلوه تراب الغبار، الذي تتركه سيارة خيرية وهي تنطلق مبتعدة، هاربة من حقيقة أن الفارق الطبقي كبير، وأن المجتمع كان ولا يزال غير قادر على أن يمنح أمثال إبراهيم ما ينجون به من محاكمة الكذب أو التجمل، أو يعطي لهم الفرصة لكي يكون تفوقهم العلمي والثقافي كسرًا لاجتياز دونية النظرة التي تصمهم دومًا بالاحتقار وقلة الشأن الاجتماعي، وهي لقطة شديدة الواقعية وأكثر حزمًا وحسمًا وتأثيرًا من نهاية القصة المفتوحة، التي حاول عبد القدوس أن يقف فيها على الحياد تاركًا سؤال المظهرية مفتوحًا في عقل القارئ.
ولكن مع كامل التقدير للجهد الذي بذله ممدوح الليثي ككاتب سيناريو استطاع أن يخلق عالمًا واضحَ التفاصيل والأركان من تلك اللقطة الصحفية السريعة التي صاغها إحسان حتى أن الحلول الدرامية التي ابتكرها كما سبق وذكرنا تُعَد درسًا في الاقتباس السينمائي، فإنَّ السيناريو نفسه أصيب بعيب خطير في أثناء تطويره للصراع، وهي المصادفة التي يمكن اعتبارها أكثر عوامل الضعف التي تقلل من تماسك أي عمل درامي، وتخصم من قوة بنائه ومتانة إقناعه.
فمن بين كل البيوت التي يمكن أن تعمل بها أم إبراهيم يختار السيناريو بيت زميليه مايسة وهاني لكي تصبح المرأة خادمة عندهم، بل يجعلها تحضر قمصان هاني القديمة لكي يلبسها إبراهيم إمعانًا في إذلاله وتحقير موضعه بصورة ميلودرامية فجّة، لم يكن البناء في حاجة إليها، في حين كان من الممكن بسهولة أن يستغل كراهية هاني لإبراهيم، ومحاولته العثور على أي ثغرة تهدم صورته الباهرة في عيون خيرية والبنات، فيكتشف بالمراقبة أن إبراهيم ليس كما يدعي، وأن أباه حفار قبور، وأمه خادمة، فيعمل على أن يتم استدعاء الأم بصورة عادية إلى حفل عيد الميلاد بمنزلهم وهناك يفجر القنبلة!
نقديًّا لا يمكن أن نملي على الكاتب ماذا كان عليه أن يفعل! ولكن على مستوى تحليل تقنيات السيناريو والإشارة إلى مواطن الضعف، فإن من الجائز هنا أن يعي المتفرج طبيعة الحلول الدرامية التي تطور النصوص، وتجعل الشخصيات لا تخضع لمبدأ المصادفة المفتعلة أو الصدئة، في حين أنه من السهل أن تتم صياغة لحظات صدام وتصعيد للصراع إذا ما سارت الشخصيات على خطى الملامح التي رسمها لها السيناريست بنفسه؛ فشخصية غيورة وحقودة وفاشلة مثل هاني يسهل أن تقودها عقليتها إلى المراقبة والتفتيش وراء خصمها وصولًا إلى نقطة ضعفه ومحاولة استغلالها، هكذا ببساطة دون اللجوء إلى أي مصادفة أو تلفيقات.