د. ملحة عبدالله
هكذا هي الدراما وتلك هي وظيفتها التعليمية والأخلاقية التي يجهلها الجهلاء ظناً أنها نوع من اللهو! فالدراما هي ما أصلحت أوروبا وأخرجتها من عصور الظلام إلى عصور النور والتنوير والنهضة..
لم أكن أتيقن أن الهند قد أصبحت هوليود الشرق حتى سميت صناعة الأعمال الدرامية فيها بـ(بوليود) على غرار المؤسسة الدرامية الأميركية الشهيرة! حتى تابعت المسلسل الشهير (الملكة جانسي) والذي أتمنى أن تشاهده كل الدول العربية في هذا الوقت على وجه التحديد وذلك لعدة أسباب أولها: دعم القيم والأخلاق، ثانيها الوطنية فائقة الحد، ثالثها تعزيز مكانة المرأة وقدرتها على الدفاع عن الوطن كفرد فاعل كسائر أفراد المجتمع، ورابعها هو إثارة الخيال الحر في فضاءات رحبة تكسر جميع أطر التوقع (حرفية الكتابة).
سأحكي لكم ملخص ما سبق عرضه، لكي نتأمل ملامح هذا الطرح ذي النظرة الكامنة في ثناياه.
مانو بطلة المسلسل وهي طفلة وابنة الخادم تربت في القصر الملكي في مدينة أخرى فتعلمت المسرح وفن المبارزة على يد أستاذها تاتيو، وتعلمت البلاغة وفن الخطاب كما تعلمت المكر والدهاء فائقي الحدود حتى علم ملك جانسي بأن هناك طفلة يجب أن تصبح ملكة، فتقدم لها وتزوجها وتركها تربى في القصر كملكة حتى تتم أنوثتها وتنجب له الولد. لكن مانو التي منحها الملك اسما من أسماء ملوك جانسي (راني لكشميباي) بالاضافة إلى لقب الملكة لكنه احتفظ بالقرار له دون سواه ماعدا استشارتها إن رغب. في حين أن البلاد تقبع تحت نير الاحتلال الإنجيزي.
راني لم تغرها حياة القصر في ظل دولة محتلة فانطلقت تحارب الاستعمار مضحية بحياة القصور!
هذه الحكاية ليست من فرط الخيال، وإنما تاريخ (مانيو تاي) والتي ولدت في كاشي، (فاراناسي الآن في أُتر برادش). حتى أصبحت راني ملكة جانسي، فحكمت الهند (1835 1858م). والتي اشتهرت بقيادتها العسكرية في حرب الاستقلال ضد الإنجليز عام 1857م. فشُيد لها نصب تذكاري في جوايلور عام 1928م. وقد تناول هذه السيرة العديد من الأفلام العالمية لكبار المخرجين الأول.
ولكن سنناقش كيف عالج العمل هذا التاريخ بما يتلامس مع الواقع وكأنه يحيا بيننا نحن أبناء الوطن العربي ليُحيي فينا تلك القيم المهدرة على قارعة الطريق وليعالج مشاكل الانتماء والوطنية والأخلاق في فروسية مطلقة بكل معاني الفروسية التي تسطر في صفحات الكتب!
هذا من الناحية الوطنية، أما من ناحية الأخلاق، فقدم لنا المثال الحي للأخلاق فنرى كيف تعامل هذه الطفلة اليتيمة والدها، وكيف تتعامل مع صويحباتها وأساتذتها وكيف يكون التعامل مع الكبار والصغار، وبعد أن دخلت القصر الملكي وأصبحت الملكة راني كيف يكون التعامل مع الخصم الذي يحيك لها كل الحبائل وكيف تتعامل مع زوجها وتطهو له الطعام بنفسها وكيف تتعامل مع مربية الملك الذي ترى الكراهية في عينيها فتدفع بالتي هي أحسن وكيف كانت عقيدتها وثقتها بالله وكيف تحافظ على عباداتها حتى كانت الابنة البارة للوالد وشديدة الاحترام للزوج، شديدة الصبر والتحمل، وكاشفة لكل ما يحاك لها ثم تأتي ردود الأفعال غير المتوقعة وكأنها قد بُزت لكي تكون المثال المحتذى في هذه الحياة.
أما الأمر الثالث هنا فهو مكانة المرأة ووضعها في موضعها الذي يجب أن تكون فيه بين الواجبات والاحترام والطاعة وبين القيادة والفروسية والتدين والعلم والثقة بالنفس واحترام الآخرين لها! إنها كما أسلفنا سيرة ملكة توجت على مملكة الهند وحررت بلادها من نير الاحتلال بما حملته من كل الصفات التي سقناها والتي وضعتها على العرش، وكان هذا العمل باذخ الجودة قد قرر أن يدير كفة الميزان فيما يحصل من خلل في أراضينا وكل ما يجري فيها.
راني تداوي من أحرقها، لأنه رجل هندي على حد قولها فلا تسفك قطرة دم هندية بل تشهر سيفها فقط للمحتل، وهي بارعة في المبارزة لا يستطيع أعتى الفرسان مبارزتها، فقط هدفها هو تحرير بلادها من الاحتلال فتمضي راني في زهد الرفاهية نحو المنفى الذي نفاها إليه الملك زوجها إثر مكيدة حاكها لها الانجليز وحريم القصر معا لأنها صاعقة الشتاء كما أسموها! لتفد على قرية فتحميها وتقف في وجه الأعداء وتتحمل شظف العيش في سبيل جانسي. ولذا جاء هذا المسلسل في هذا الوقت لإعادة النظر في أحوالنا والتأمل في ذواتنا ونقرر ما يجب أن نكون علية كما جاءت الكتابة شديدة التعقيد الدرامي مكسرة لكل أفق التوقع وهذه براعة كبيرة للمؤلف بالرغم من إهداره لحساب الزمن الدرامي في بعض الأحيان.
إن المتـأمل في أحداث هذا المسلسل يراه ضربا من ضروب الخيال، إلا أنها هي راني صاعقة الشتاء وحبيبة الفقير وعدوة المعتدي والمخلصة للزوج الحبيب الذي تعلقت به وهي ابنة التسعة أعوام والمطوعة للعاصي والعميل من أبناء جلدتها فيتحول إلى وطني كما تريده.
هكذا هي الدراما وتلك هي وظيفتها التعليمية والأخلاقية التي يجهلها الجهلاء ظناً أنها نوع من اللهو! فالدراما هي ما أصلحت أوروبا وأخرجتها من عصور الظلام إلى عصور النور والتنوير والنهضة.
وفي هذا الوقت الراهن مع فتح أبواب السينما في المملكة ومع الوعي الكامن بدواخلنا أن الدراما وسيلة إيقاظ الوعي هل تقدم السينما السعودية مثل هذه الأعمال؟
المصدر: جريدة الرياض