رجا العتيبي
يكفي السيناريست أن لديه ما يقوله، ويبذل قصارى جهده ليتحدث مع الناس عبره نصه، بل يكون في قمة حماسه وهو يكتب، تنتابه مشاعر عظيمة، عندما ينثر شخصياته على الورق، ثم يراها تتحدث مع بعضها البعض، وتتصارع، وتتقاتل، تنتصر، تنهزم، تحقق أهدافها، تفشل، كل ذلك يجعل من الكاتب في قمة سعادته، ليس لأنه كتب نصا، فحسب، بل لأنه قدم تجربة حياته على شكل فيلم مبهر ، وليس على شكل «نصيحة» جافة تصيب المستمع بالممل، أو توجيهات تشعر الآخر بالدونية.
الناس تتغير إذا شاهدت الفيلم، يحصل لها مثلما قال أرسطو، يحصل لها «التطهير» أو «الغسيل» وهي مشاعر تجعلك تعيد نظرتك للحياة بعد خروجك من صالة السينما، لم يقل لك شيئا مباشرا، مثلما أنه يعمق تجربتك للحياة، والعيش والعلاقات، ويعيد صياغتها للأفضل، ذلك أن الفيلم أو الفن بصفة عامة، يركز على القيم العليا، من بينها العدالة الاجتماعية، والحب، والسلام، والتعايش.
فكل ما في الأمر أن الكاتب قدم رؤية للحياة، لم يشاهدها سواه، لذا، هو يتحمس لتمريرها لغيره من الجمهور، والجمهور يكون ممتنًا له، لأنه أطلعهم على لحظة زمنية رآها وحده، فاصطادها، وقدمها لهم على طبق من ذهب.
أن تكتب نصًا، ويتحول النص إلى فيلم يعرض تجربتك، ويغير في الحضور، فهذا يعني أن الكاتب يفوق غيره من أقرانه المهووسين بالنصائح، أما «صاحب النصيحة» فأقل درجة من الكاتب، لأنه يمشي وينصح، «ينصح من يعرف ومن لا يعرف»، رأس ماله، وجهة نظر لها سنوات لم تتغير، قد تكون مستندة على تجربة شخصية، تخصه هو، ولا تصلح للآخرين، يكررها أينما حل وارتحل، في الأعراس، وفي العمل، وفي الشارع، وفي الباص، وفي غرفة انتظار الطبيب.
أما «تبادل النصيحة» فشيء ولا في الأحلام، كل شخص ينصح الآخر، فإذا نصحت اليوم شخصًا، توقع أن يأتي شخص آخر وينصحك، وتمضي يومك بين «ناصح ومنصوح».
الكاتب يعمل عملًا أرقى، وأنبل، وأكثر تأثيرًا، يقدم تجربته عبر عالم درامي موازٍ للعالم الحقيقي، وليس وجها لوجه مع الشخص المنصوح، الكاتب يفوق الآخرين، لأنه يملك خيالا لا يملكه غيره، يملك عوالم يمكن أن تغير عوالم الدنيا الحقيقية، ويصنع فيها البهجة، ويحقق فيها كل معاني الجمال والفن.
من جانبه الكاتب يخشى جمهوره، يخشى أن النص لا يعجبهم، أو أن الفيلم لم ينقل تجربته كما هي، يكتب وهو في حالة قلق، طوال مراحل الكتابة، والإنتاج والعرض، كل ما يخشاه الكاتب أن لا أحد يحبه، أو يكرهونه، هو يكتب ويستشعر أن الكل محدق فيه، أينما زاح وجهه رأى الوجوه حوله، ينظرون إليه إما بارتياب أو بفرح، لحظات وجلة لا يعرفها سوى الكتاب.
أما المهووس بالنصائح، فلا يهمه رأي الناس، يعلم أن الناس لا تحب تكرار النصيحة، ولا تحب من يتعالم أمامها، ولا تحب من ينصح الناس، ولا يعمل بنصائحه، لا تحب الذي ينصح الناس أمام الملأ، ليس ليفيد الناس، بل ليشعر الآخرين بتفوقه. ويكفي النصيحة فشلا خلوها من الخيال والفن.
أما الكاتب فيكفيه فخرًا، أن لديه القدرة لإخبار الناس كيف يرى العالم، وأن الناس تمنحه وقتًا، لقراء عالمه، أو مشاهد الفيلم الذي كتب فيه عالمه الدرامي، ويشترون التذاكر من أجل أن تمنحهم صالة العرض السينمائي كرسيًا يجلسون عليه.. وهو الوقت الذي ارتضوه للكاتب بكل حب وتقدير وامتنان، وفي المقابل لم نعلم عبر التاريخ أن شخصًا اشترى تذكرة لسماع نصيحة، أو اقتطع من وقته جزءًا لناصح يعلج أمامه نصيحة مهترئة من كثرة تكرارها. وهذا السر العميق الذي يكره فيه الجمهور أفلام النصائح، الأفلام التي يرسل فيها الكاتب رسائله على شكل نصائح.
المجتمعات النامية، تعشق النصائح، وتريد من الأفلام والفن بصفة عامة أن تفعل الأمر نفسه وأن تكون موجهًا له، يريد غيره أن يقول له ماذا يفعل، وكيف يفعل، وهذا أمر تراه متفشيًا في المجتمعات النامية، ذلك أن الفنون لديها تعتاش على ثقافة النصائح، بخلاف المجتمعات المتقدمة، فهي تدرج الفنون ضمن الترفيه، ولس ضمن أفعل ولا تفعل.
الإشكال ليس في التعليم، ولا في التدريب، ولا الميزانيات، الأمر يتعلق بالسبق الحضاري، المجتمعات تتغير تراكميًا، والحضارات تحتاج مئات السنين حتى يحصل لديها نقلة نوعية في التفكير، يبني على إثرها نظام معرفي جديد، يغير الحالة الثقافية، فالحالة الثقافة لا تتغير في بضع سنين، ولا تتغير بضخ الأموال، الحالة الثقافية تحتاج إلى أجيال حتى نلحظ الفرق، وما دام أن «المناصحة» ما زالت هي السائدة، وما دام أنها دخلت في عمق الأفلام والنصوص، فهذا مؤشر على أن الأمر يحتاج إلى وقت، وما الذي يمنع أن تعد الجهات المتخصصة في الفنون والأفلام تحديدًا دراسات تستكشف بها هذا الرسائل والمناصحة في الأعمال الفنية.
قبل أيام طلبت من طلابي في قسم السينما والمسرح في كلية الإعلام والاتصال بجامعة الإمام محمد بن سعود، طلبت منهم كتابة قصة تطبيقا للدروس التي دروسها بهذا الشأن، لحظت الكثير منها فيها نفس «نصائحي»، ما يؤكد أن هذا النفس متغلغل في الجذر الثقافي لمجتمعنا.
لا أكون مثاليًا عندما أقول أن السيناريست هو الذي يعيد تشكيل الوجود، ويجدد الحياة، ويوقظ جذوة الأبداع، فمتى عرفنا أهميته، سنعترف بتفرده، وتفرده في خياله، أما الناصح مرة أخرى، لا يملك خيال ولا فن، يملك تجربة يكررها، ليس بالضرورة أن تكون صحيحة، وتحديدًا عندما ينصح رجل كبير، مراهقًا يصغره بسنوات.