د. محمد البشير
يحتل العنوان العتبةَ الأولى لقبول الفيلم أو الإعراض عنه! فإن كان العرب يرون أن «الكتاب باين من عنوانه»، فإن الغرب يرفضون ذلك؛ بل يحثون على عدم الحكم على كتاب من عنوانه في مثلهم «Ever judge the book by its cover» إذا ما افترضنا أن الغلاف يحتوي العنوان ضمنًا، وأن الفيلم يقاس على الكتاب!
وما بين الأمرين بقبول النصيحة العربية من الإشارة الأولى، والإصرار على الإشارة الأولى من العنوان، قياسًا على «ليلة العيد تبيّن من عصاريها»، بينما النفس الغربي يحرض على المغامرة، وخوض التجربة، وعدم الحكم إلا بعد التجربة، لا بُد أن ننحاز للرأي الأول ما دمنا عربًا، فالأمر يعنينا كثيرًا، وإن كانت التجارب توافق رؤيتنا، فاختيار العنوان يحتل مساحة مهمّة لدى السيناريست ابتداءً، مرورًا بالمخرج، وانتهاءً بالمنتج في إصدار الفيلم، إذ يحتكم شباك التذاكر كثيرًا إلى هذه الخطوة، فافتراض عنوان جاذب ؛ يغلب أي عنصر آخر ! وعلى ذلك يراهن كل صناع الفيلم في نجاح منتجهم النهائي بإقبال الجمهور وقبوله.
لا شك أن العنوان مهم للغاية، وليست الأمثال هي من تحكم المزاج العام، فالغرب أيضًا يولي العنوان اهتمامه، وربما أكثر من ذلك بكثير، وعلى العنوان -بوصفه «عتبة»- أُجريت دراسات وبحوث، فلا يمكن أن يُذكر موضوع «العناوين / العتبات» دون أن يرد اسم الناقد الفرنسي «جيرار جينيت»، ويستشهد بجهوده في علم السرد الذي ينسحب ضمنًا إلى عالَم الأفلام المتاخم، وتكفينا التجربة الأخيرة باسم فيلم «أوبنهايمر» للمخرج الكبير كريستوفر نولان، وما أحدثه من جذب للجمهور المتلهف لمعرفة الحكاية وفق وظائف العنوان الأربع: «الإغراء – الإيحاء – الوصف – التعيين» عند جينيت، وما قدمه العنوان من إيجاز بالاكتفاء باسم «أوبنهايمر» بدلًا من عنوان الكتاب « انتصار ومأساة جي روبرت أوبنهايمر» للكاتبين كاي بيرد ومارتن جاي شروين المقتبس منه الفيلم، فالجمهور يتلهف لمشاهدة ما سيفعله نولان في تقديم سيرة «أبي الطاقة الذرية»، وحكايته مع أول قنبلة ذرية في العالم، وما أحدثته في الحرب العالمية الثانية، وبعد هذا الإغراء ومشاهدة الفيلم لما يقارب ثلاث ساعات، للجمهور أن يوافقوا أو يختلفوا مع نولان في فيلمه، ولهم أن يروه وفيًّا لفنه بتقديم حكاية جديدة جاذبة، أو متجنيًا جناية كبيرة لتزييفه التاريخ، وتلميعه للجناة! فالعناوين كالطعم الذي يُقدَّم للجمهور، وقاعة السينما الشرك/المكان الذي يمنح التجربة الكاملة للمشاهد ؛ ليخرج بعدها واصفًا رحلته خلال الفيلم.
حقَّق الفيلم نتائج كبيرة عند العرض، وما يزال يحقق، وهذا هو النجاح الذي يشارك العنوان في تحقيقه، ولذلك يُضطر أحيانًا إلى تغيير العنوان في أثناء رحلة صناعة الفيلم وصولًا إلى شاشة المشاهدة بالاسم الأخير الذي جرى الاستقرار عليه، أو تغييره بعد العرض عند تخييب العنوان لأمل صنّاعه باقتناص الجمهور، وفشل الطعم في اجتذاب أحد إليه، ولا بأس من استبدال الطُّعم لتحقيق الهدف.
أنشأ ريتشارد ويليامز قصته بعنوان أولي في الستينيات الميلادية، وهي عبارة عن قصة مستلهمة من ليالينا العربية، أو ألف ليلة وليلة التي ألهمت كثيرين، بينما لم نوظفها حقَّ توظيفها بعد! وأخذ ويليامز في محاولاته لثلاثين عامًا ما بين قبول للعمل، ورفضه لصعوبة تنفيذه، وتعثر تمويله، حتى خرج على الشاشة باسم «علاء الدين» من والت ديزني عام 1992م، وباسم The Princess and the Cobbler الأميرة والإسكافي عام 1993م، وذلك بعد شراء الفيلم وإعادة تحريره وصناعته من جديد، وبصورة جديدة من قبل شركة ميراماكس، وإعادة إصداره وتغيير اسمه لاحقًا عام 1995م ليصبح Arabian Knight فارس العرب، والاستقرار على The Thief and the Cobbler اللص والإسكافي عام 1997م عند إصداره على نُسَخ الفيديو المنزلية آنذاك.
إن هذه الرحلة وغيرها لبعض الأفلام تشير إلى أهمية العنوان، وقبول عنوان في قُطر دون آخر، ومبرر ما يحدث من تحريف أو خيانة -كما يروق للبعض تسميته- في ترجمة بعض العناوين، ونقلها إلى العربية بعنوان آخر، وذلك من أجل ما يتوسمونه من قبول لدى العرب، أو خشية من رفض أحيانًا، أو جمالية اللغة بعنوان معبر مثل ترجمة فيلم « There is no evil» عام 2020م للمخرج الإيراني محمد رسولوف، ويقابل العنوان حرفيًّا «لا وجود للشيطان» ؛ ليصبح العنوان «خير مطلق» مستبعدًا ذكر الشيطان، ومكتفيًا بالأثر في ذلك بالوصول للخير المطلق عند غياب الشيطان افتراضًا، ومثل ذلك في النقل من العربية إلى الإنجليزية في الفيلم التونسي «بيك نعيش» عام 2019م للمخرج مهدي البرصاوي ليصبح بالإنجليزي «A Son » بعنوانٍ دالٍّ على أحداث الفيلم، ومبتعدًا عن جمالية الاسم بالعامية التونسية من الحياة بهذا الوليد، والاكتفاء بالمفردة للتعبير عن البطولة الضمنية لهذا الولد.
وأخيرًا، لا بد أن نقدّر مرحلة العنونة التي هي يسيرة عند الإطلاق في تصوُّر البعض، ولكنها من الصعوبة بمكان، ونتائجها مريعة، ونمتن للجهد المبذول في ذلك، فالفيلم كالوليد الذي تعب أهله في رحلة البحث عن اسم له، والخشية في نهاية المطاف أن يُنكر مع فيروز ويقول: «الأسامي كلام / شو خص الكلام / عينينا هنّي أسامينا».