تغريد العتيبي
على خلاف ما قد تشتهر به كلمة «رعب»، وصنفه من أدب وكتابات من أساليب تخويف وفزع، فإنّه قد يجتمع أحيانًا بشكل باهرٍ بالضحك، كطرحٍ من طروح الجنون ولا يُقصد به القوطية الكوميدية، التي لاحقًا أصبحت صنفًا في حد ذاتها، كالأفلام العائلية، التي غالبًا تروج وتعرض في موسم الهالوين. أما ما يُقصَد هُنا هو انتحاء الرعب منهجًا آخر من الفوضوية وتصوير العدم والروح الأناركية متمثلةً في مفاهيم «العظمة» أو «الرهبة»، لكن ليس السوداوي منها فقط أو القوطي، بل ذاك الهائج في العدم، وانعدام القوانين، ومنها أي منطق أو حس في تحكيم العقل.
لعل أبرز ما يُذكر هنا كمثال شهير اجتاح الثقافة العامة كرمز من رموز الثورية أو الأناركية أو أيضًا لغرابة الأسلوب والتمثيل هو الجوكر النقيض للرجل الوطواط «باتمان»، الذي يسعى خلف إيجاد حس من العدالة أو السيطرة لفوضوية مدينة غوثام، ونذكر هنا أهمية الاسم حيث يستوحي صدى القوطية من الظلامية والعظمة السوداوية في الشكل والمضمون، من قلاع وسجون ومختبرات مريبة، ومصحات آركام النفسية، والشخصيات والحالات التي تسكنها عائدًا إلى الكلمة الإنجليزية «غوثك – قوثك». لكن الجوكر كرمز قد طغى على تلك الكائنات والشخوص ليصبح رمزًا منفصلًا، يُمثَّل في أفلام مستقلة وغيره من القصص المصورة. تلك الحالة التي تجمع بين السقوط التام لأسوار العقل قد أصبحت لاحقًا أمرًا مقلقًا لممثلين عدة، نذكر منهم هيث ليدجر وخواكين فينيكس. الذي جعل تلك الحالة من العدمية التامة بذاك الانعكاسية في الرهبة، هو دمجها لتنقاضات عدة، فنتساءل ما الذي يجلب الضحك هنا؟ وهل تلك هي «سعادة»؟
إنَّ ما نراه أيضًا هو انحطاط وليس فقط ضبابية تلك المفاهيم. وكأن كل ما يمثّله الجوكر هنا هو صورة عكسية ليس فقط للمفاهيم المجتمعية كالعدالة والأخلاقيات، وإنما للمفاهيم الشخصية كالفردية والسعادة وحدود الهوية والذات. فعندما تذوب تلك الألوان مثلًا، تتضح لنا الصورة الحقيقية لما قد نربطه بصورة معاناة أو ألم، بالذات في أفلام الجوكر التي تحاول تسليط الضوء على ما تحت القناع. لكن هنالك أيضًا قصص تمسكت بعدمية مفهوم القناع. فقد حاولت تقديم صورة لمن ولد كائنًا من الظلام والشر، وكأنما هو تجسيد لهذه الحالة دون محاولة لتقريبها للبشرية بإعطائها إحساس ألم، أو تجارب مكونة حصيلة من معاناة وقصة شخصية.
لعلنا نذكر أن مفهوم «العظمة»، الذي يترجم إلى «الجليل» أحيانًا في الكتابات العربية عن هذا المفهوم من منظور كانط، إنه باختصار شديد لما له من تعقيدات ودراسات وشروحات مختلفة الانبهار الشديد بما يفوق العقل تصوّره، فيسقط سور العقل ولو لوهلة في الدراسات الكانطية، ليعود بشكل أقوى من ذي قبل. فالحركة الرومانسية أخذته من منظور الانبهار بعظمة الأناة، أو لاحقًا بالطبيعة في القارة الأمريكية من سلاسل جبال ساحقة، وشلالات عظمى، والرموز الدينية قبل ذلك أخذته بمنظور الإعجاز والقدرات الإلهية، وعظمة الرب. لكن القوطية أخذته إلى مسار ظلامي ولا تعني الانبهار بالتصويرات الجهنمية، حيث إنها ما تزال تدخل في الإطار الديني، إنما بكل ما هو ساكن الليل والسواد والظلام، كالقلاع الشاهقة، وضياع الذات في سجون لا مفرَّ منها، ومتاهات وسلالم بلا نهاية، والاستستلام التام للأسياد الساديين، أو الكاونت، ومصاصي الدماء. فهنا على عكس كل ما سبق لا تقدم القوطية عودة أقوى للتحكيم العقلي بل يسقط تمامًا. هذا ما يحاول تقديمه هذا الطرح من الجنون والهيستيريا؛ حيث لا يعطي أيضًا حسًّا للألم وتوابعه لاحقًا كالخوف من تلك المؤثرات أو الفزع والذعر إنما الضحك فقط.
فالقوطية في جوهرها أسلوب يُعنى بالبوح عن المكبوت والنبش والتنقيب عن الأسرار والصدمات. فهُنا الضحك إنما وسيلة انفجار هيستيري عكسي عن كل ما قُبع ودُفن في اللاوعي بحكم عدم استوائه أو مناسبته، وموافقته للظوابط العقلية والاجتماعية والأخلاقيه وغيره. فقد تصف القوطية درجات معينة من الابتعاد ومغادرة ما قد يوصف بـ«طبيعي» إلى خرق ذلك، وأبرزها هذه الحالة العائمة في فوهة العدم لنيتشه، والعودة للاوعي عند فرويد، و«هيديز» عند دانتي. لنرى عديدًا من تصويرات بيوت المجانين أو المصحات في القوطية، مثلًا الفيلم المستوحى من رواية للاسم نفسه «الذي طار فوق عش الوقواق» عام 1975 للمخرج مايلوس فورمان. ولعل أشهر أداء هو لويس فليتشر للممرضة راتشد، وجاك نيكلسون لراندل مرفي. حيث الرواية تعود للمؤلف كين كيسي، التي صدرت عام 1962. ومن أشهر الأفكار المطروحة في العملين هو مدى الانعدامية أيضًا، والعشوائية في وضح الحدود، والمفاهيم في تعريف ما هو «الجنون» حقًّا، لنرى مثلًا التزمّت في أبلغ صورة في الممرضة والراعية راتشد، والانفلات والأناركية في راندل، ليخلُقا معًا جوًّا من التشويق والإثارة في محاولة السيطرة أو هدم الأسوار، وتعود أيضًا حرفيًّا إلى جدران المصحة والسجون، ليست فقط التعبيرات المجازية العقلية. وهذا في حد ذاته ما تمثله القوطية من صور. وكصنف وأسلوب أدبي ما تطرحه من أسئلة يصعب وضعها في كلمات إنما صرخات أو ضحكات، لتعبر عن اختلاف درجات المكبوت، ومدى الابتعاد في تلك العظمة السوداء بكل انعكاساتها المختلفة والمشوهة.