عبدالله الأسمري
ينتمي فيلم «الباقون the holdovers» إلى شكل أفلام الثمانينيات والتسعينيات الميلادية لنستذكر من خلاله هذه النوعية من الإنتاجات التي افتقدناها لفترة طويلة من الزمن، فترة ما قبل طغيان عوالم مارفل ودي سي على شاشات السينما، وتوجه أغلب الجمهور للأعمال التلفزيونية.
كلاسيكية السرد لكن بروح متجددة
الفيلم يناقش طبقة من المهمشين لظروف مختلفة وخارجة عن إرادتهم، ونشاهد من خلالهم كيف تنعكس هذه العزلة على نفس البشرية بمختلف أسبابها، فأحيانًا العزلة تكون نتيجة لفقد أشخاص كانوا محورًا مهمًا في حياتك تمامًا كشخصية «ماري لامب» التي أقفلت على نفسها بجانب قارورة كحول ومشاهدة برامج تافهة يتنافس فيها البشر لإخراج أسوأ ما فيهم، محاولةً نسيان هذا الشرخ والفراغ الذي ألم بها بعد فقدان زوجها وابنها؛ أو قد تكون العزلة مفروضة عليك لأسباب خارجة عن إرادتك، أسباب لم يكن لك يد فيها لتتلقى هذا القدر من العقاب، وهذا ما انعكس على الشاب «أنغوس تولي» وأيضًا معلمه «بول هونهام»، ولكن ما يختلف به المعلم أنه نجح في خلق نوع من التأقلم مع عزلته وجعلها أسلوبًا لحياته الرتيبة.
الكاتب «ديفيد هيمينغسون» اعتمد على قالب معروف ومتوقع، ولكنه استثمر هذا القالب ليخلق أحداثًا كان محركها الأول تفاعل الشخصيات بعضها مع بعض. وهذا ينقلنا إلى التركيب المعقد والرائع للشخصيات الثلاثة، فكل شخصية منها تحمل قدرًا عاليًا من المشاعر الإنسانية المركبة بطريقة يصعب وصفها، فهي مشاعر تشعر بها من خلال الحوارات البديعة التي صاغها الكاتب بحرفية عالية قلَّما نجد مثلها في الصناعة الأميركية مؤخرًا.
العودة لأساسيات الصورة
قدّم المخرج «أليكساندر باين» صورة مبهرة ومعبرة عاد فيها لأصول الصورة السينمائية بكاميرا ثابتة، ومؤطر لها بشكل جيد، مكوِّنًا عدة طبقات في عمق الصورة ليصف من خلالها بدء تلاحم هذه الشخصيات، وبهندسة الديكور التي أشعرتنا بأجواء السبعينيات ببوسطن بمنتهى الإقناع، مرورًا بالمونتاج الرائع والسلس بنقلاته وترتيب أحداث الفيلم، متبعًا في ذلك روح الصورة الكلاسيكية في الفيلم، وصولًا لاختيار الممثلين العبقري بتوظيف ثلاثي البطولة: بول جياماتي، ودافين جوي، ودومينيك سيسا؛ لما بينهم من تناغم ومباريات تمثيلية جيدة.
أخيرًا، يعدُّ «الباقون» فيلمًا مهمًا في عام 2023، بفضل ما يحمله من بساطة وعودة لتقاليد وأساسيات الفن السابع، مبتعدًا بذلك عن أفلام الفشار أو أفلام القصص الملحمية التي اعتدناها مؤخرًا، واعتمد على طبيعتنا كبشر، وخاطب مشاعرنا، وجعلنا نتعلق بشخصياته وأحداثه.