د. محمد البشير
حقل الرواية في الأدب أقرب ما يكون إلى حقل السينما في الفنون، من حيث قدرته على احتواء ما يجاوره، وتوظيفه، ويعود إلى الأمر إلى الخصوصية التي تتمتع بها الرواية، والتي وصفها الناقد المغربي سعيد يقطين بأن «خصوصية الرواية تَبرزُ ضمن مستويات عدّة في قدرتها على احتواء واستيعاب ومحاورة ومعارضة الأنواع وبطرائق متعددة»، ولا أظن السينما إلا أنها قادرة على مزيد من الاحتواء والاستيعاب والمحاورة والمعارضة، وهذا التقارب في الاحتواء قادر على أنْ جذَب أحمد مراد إلى الرواية بعد تخرّجه عام 2001 من المعهد العالي للسينما ودراسته للتصوير السينمائي التي أفادته في كتابة الرواية، فالرواية قادرة على احتواء الشعراء الأكثر نرجسيةً واعتزازًا بشعرهم عند المقارنة بالسينمائيين الأكثر مرونة واستفادة من كل ما يحيط بهم، فمراد بعد اشتغاله على أفلام قصيرة في أثناء دراسته، وتوجهه للرواية بوصفها عملًا فرديًّا قادرًا على لملمة أفكاره، والانتهاء من كتابة روايته الأولى «فيرتيجو» عام 2007، وروايته الثانية «تراب الماس» عام 2010، وتحويل الأولى إلى عمل درامي تلفزيوني بالاسم نفسه عام 2012 بسيناريو وحوار محمد ناير، وإخراج عثمان أبو لبن، فالإنجاز تم خلال خمس سنوات حافلة روائيًّا، وتوجه إلى حقل جديد من الاستفادة فيما كتبه، وتحويله من مكتوب إلى مرئي.
لحظة الوصول
مطمع كثير من الروائيين الوصول إلى الجوائز العربية والعالمية، ومن أهم الجوائز «البوكر العربية» عربيًّا، فبينما يشاهد أحمد مراد المسلسل المستند إلى روايته عام 2012 أصدر روايته الثالثة «الفيل الأزرق»، وهي الرواية التي وصل بها إلى القائمة القصيرة في جائزة البوكر عام 2014، وفتحت له باب التعاون مع المخرج مروان حامد؛ ليشاهد روايته فيلمًا سينمائيًّا في تعاون أول في العام نفسه.
بداية الرحلة
لم يتوقف أحمد مراد عن الرواية، فقد كتب روايته «1919» عام 2014، وأعقبها برواية «أرض الإله» عام 2016، ورواية «موسم صيد الغزلان» عام 2017. واستمر التعاون بين أحمد مراد ومروان حامد بخطوة ثالثة بعد أن شاهد مراد روايته بقلم غيره، وروايته بقلمه؛ انتقل إلى كتابة مباشرة إلى السينما دون الاستناد إلى رواية بفيلم «الأصليين» عام 2017؛ ليعود إلى روايته «تراب الماس» ويعمل على أن تخرج الرواية فيلمًا عام 2018 بتعاون أيضًا مع المخرج مروان حامد.
الاكتفاء بالسينما
بعد هذه التجارب والتناغم بين الكاتب والمخرج، والسرد التاريخي لمسلسل التعاون بينهما، والاستمرار في الكتابة دون توقُّف أو تقدُّم إلى جوائز البوكر على سبيل المثال، فالفوز بالسينما لا يقل صيتًا -هذا إن لم يفُقْ أي جائزة شهرة- عند الناس، لا عند الروائيين! فالخلاصة التي وجدها أحمد مراد في العودة إلى عمل تاريخي يفوق ما سبق، وبالعمل على السيناريو بوعي جديد، ومن خلال مرونته البالغة، فهو القادم إلى السينما من التصوير السينمائي؛ فهو على مسافة واحدة بين السينما وبين الرواية، وقدرته على التخلص من شخصيات أيسر ما يكون على نفسه، وبالتأكيد إضافة شخصيات أخرى لن يخدش نرجسية الروائي الذي يسكنه، فإضافة 7 شخصيات كما صرّح مراد على موقع «العربية»، وكتابة السيناريو أكثر من 14 مرة ما هي إلا تتويج لتجربة مراد، ووصوله إلى مرحلة جيدة بلغت بالفيلم هذه المكانة عند المشاهدين، وهذا الاختلاف حول الفيلم والشخصيات، والتوظيف الرائع للحدث التاريخي، وتوثيق البطولات التي تستحق أن تُذكر ويُشاد بها.
أول الغيث
من خلال التتبع السابق توافقت أسماء الروايات مع أسماء الأعمال لدى أحمد مراد، «فورتيجو»، و«تراب الماس»، و«الفيل الأزرق»، وأول تحول في العنوان كان في فيلم «كيرة والجن» عام 2022 حين احتلّ البطلان الصدارة بعنوان الفيلم «كيرة والجن»، فـ«أحمد كيرة» يقوم بدوره الفنان كريم عبد العزيز، و«عبد القادر الجن» الذي يقوم بدوره الفنان أحمد عز، والإلغاز في الاسم «كيرة والجن» لمن لا يعرفهما أكثر تحفيزًا لشباك السينما، وأكثر تقديرًا وتواصلًا بين الجمهور والأبطال الذين يرونهم على الشاشة؛ عند المقارنة بالرواية التي تحمل تاريخ «1919»، وهو تاريخ الثورة الشعبية ضد الإنجليز، العنوان الذي يتناسب مع مزاج القراء، أسوة بالنماذج المشابهة مثل «1984» لجورج أورويل مع الفارق، فهذا التاريخ عام صدور الرواية في 1949 كان محفزًا للحديث عن حدث مقبل، ورواية بطابع «ديستوبي»! على خلاف العودة والاتكاء على التاريخ المرتبط بالثورة، وصدورها روائيًّا في توقيت مناسب! على خلاف الفيلم الذي جاء للتوثيق مبتعدًا عن السياسة ما أمكن، أو كما عبّر مراد «خففت من جرعة السياسة بالفيلم عن الرواية كي لا تمثل عائقًا في الجانب التجاري»، وليأتي الفيلم مخلصًا لتخليد البطولات لا أكثر بجمال السينما وقدرتها على نقل المشاهد، والعودة به في الزمن، والالتفات إلى الشباك بهذا العمل، والسعي للفوز بالمشاهدين.
الرواية أم السينما؟
العمل الفردي في الرواية يترك مساحة حرة للكاتب. مساحة لا تقبل القسمة على أحد غيره، فللروائي أن يصنع شخصياته كيفما أراد وبالقدرات التي لا حدود لها، ولا تثريب عليه، فالخيال أكثر سعة من ضيق الكادر، ولذلك يتنبه الكاتب في الحالتين، وخاصة في تجربة أحمد مراد، فهو يكتب روايته بوعي سينمائي، وهذا الوعي قاده ليجيب في حوار له أجراه المصطفى نجار نُشر في الشرق الأوسط: «في العادة أرسم الحدث أو المشهد ثم أصور مكانه -إذا وجد- بالكاميرا أو أتخيله رسمًا قبل أن أضع شخصياتي وأحداث الرواية في قالبه». فهذا الوعي يختصر المسافة كثيرًا بين الورق والشاشة، ومع ذلك لا بُدَّ من تبايُن ملازم لنقل الرواية إلى السينما، فطبيعة الانتقال من قالب أدبي إلى كادر سينمائي تستوجب كثيرًا من الاستجابة لاشتراطات السينما التي يعيها أحمد مراد، وتمثلت كثيرًا في «كيرة والجن»، فالسعة والضيق أمر نسبي ومتبادل ما بين الرواية والسينما، وكلاهما محتاج إلى الآخر بتفاوت فيما بينهما، ويزداد التناغم متى ما وصل التبادل بكاتب جرّب الفنين، ووعى ما يمكن التخلي عنه، وما يجب الاحتفاظ به لصالح الاثنين.
توليف الشخصيات
في فيلم يتناول مجموعة من المناهضين للإنجليز لا بد من الوعي باكتمال الفريق كما جاء في مقهى ريش، فالتكامل سر القدرة على التغلب؛ ليس على الإنجليز فحسب؛ بل على المشاهد الذي لن يقبل رتابة الطهارة عند تقديم الأنا مقابل الآخر، فالخيانة التي تمثلت في شخصية «نجيب الهلباوي» التي أداها سيد رجب باقتدار، وكان الشرخ في المجموعة بوشايته بـ«الجن»، وبينما تأتي هذه الحادثة في تحول الشخصية من وطني لخائن، وتوصيف للنفس البشرية التي من الممكن أن تسير في هذا المسار كما هو حال سقوط كل الأبطال بخيانات مماثلة من أقرب الناس إليهم، فلا قداسة لبشر! وهذا ما جاء في الفيلم، وتكامل به في تقديم الشخصيات وتحوّلاتها، ودوافعها التي تقودها إلى منعطف كما حدث للجن ما بين بداية الفيلم وتعامله مع الإنجليز، وما بعد مقتل والده، وانضمامه للمجموعة.
توظيف العلاقات
حتى تكتمل الصورة لا بد من ربط بين أعضاء المجموعة، وإعطاء دور لكل واحد منهم، فـ«دولت» البنت الصعيدية الجادة التي لا تراوغ ولا تهادن؛ يسقط في حبها «الجن» الولد اللعوب القادم من الشارع إلى ساحة المقاومة، وتتعقد الخيوط بينهما، فهي القادمة من منطقة مغايرة، منطقة لا تتورع عن الإقدام على قتل أي أنثى على افتراض وَهْم اقتراب غير شرعي، فما بالك برائحة تفوح من ابنتهم! وما كان لدولت إلا أن تموت بيد أخيها المنكسر لقتله أصحابه، وليكمل تهشمه وتشظيه بقتل أخته المناضلة زورًا وبهتانًا، فالحياة ليست عادلة، وهكذا قدر المحبين والمناضلين والأشراف والأوفياء. فربط الحكايات، والتوليف بين الشخصيات يقرّب الصورة في فيلم لا مسلسل! فالجمع بين كل هذا العدد يتطلب حبكًا متناهيًا، حبكًا أجاد الفيلم في بعضه، وقصّر في الآخر، فقدّم شخصيات أشبه بالزائدة في أحيان أخرى، ولكنها ضرورة الشارع الذي لا بُد أن يضم كثيرًا، وتمر الكاميرا على كثير، وتنتقي الأبطال غالبًا، فالشارع حافل بالمارة، ولا ضير في قليل من الحكايات العابرة.
الغلبة
انتصر «أحمد كيرة» لوالده الذي أُعدِم في حادثة دنشواي التي ابتدأ بها الفيلم، وركّز بها على مستقبل بطله الذي أراد له أن يبني شخصيته وقدرته على التعامل مع الحالة، وتحمّله وصمة الخزي التي طاردته في خنوعه للإنجليز، وموت زوجته «زينب» التي أدت دورها الفنانة روبي، وهي لا تعلم حقيقة نضاله، وقربه من «إيملي» من أجل مصلحة يعرفها ولو أساءت لسمعته، وتجاوز خضوعه الصوري إلى ابنه الذي جعله يرفع يده تحية للإنجليز، وتنمر أصحابه عليه بسبب والده. كل ذلك يهون أمام من أراد تحقيق الهدف، فالنصر ثمين ولو تكبد في ذلك الكثير، فيكفيه أنه كان على رأس القائمة، وبه يبدأ الفيلم وينتهي.