فجر يعقوب
للأشقاء المصريين، يبدو فيلم «المخدوعون» في تجربة مواطنهم المخرج توفيق صالح «تغريدة» من خارج السرب السينمائي الذي اعتادوا التحليق فيه، وإطلاق الأحكام النقدية من خلاله، فهم على سبيل المثال يفضلون أول أفلامه، مثل «درب المهابيل»، وحتى بعض الأفلام متوسطة القيمة الأخرى التي عمل عليها في مشواره الفني على «فيلمه السوري»، إذ يقدم للشاشة الكبيرة –هنا- واحدة من أهم أعمال الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني الأدبية، وهي رواية «رجال في الشمس».
وأيًّا تكن الدوافع –إن وجدت بطبيعة الحال- فإن مواطني المشرق، يجدون أن فيلم «المخدوعون» قد سبق في شهرته توفيق صالح نفسه، وهذا لا يضير الفيلم أو المخرج بشيء، بل بالعكس، فمن بعد مرور نصف قرن بالتمام والكمال على إنجاز هذه الرائعة السينمائية «1973»، فإنها ما تزال تتربع على العرش، بوصفها واحدة من أهم إنجازات السينما العربية التي انتبهت مبكرًا لإنسانية ووجدانية القضية الفلسطينية، ومدى محاكاتها شعوريًّا ونفسانيًّا لقضايا إنسانية عالمية، بل إنها تصح في جانب منها إلى إعداد بعض الدروس السيكولوجية والتشريحية للغوص في أعماق بعض الشخصيات، مثل شخصية أبو الخيزران، فهو لا شك شخصية محورية فرويدية في الفيلم، وفي حياة الناس، ويمكن العثور عليها في أعمال أدبية وسينمائية لجنسيات كثيرة مختلفة.
قليلة، الأفلام العربية، التي صاغت رؤيتها السينمائية من خلال بوابة التحليل النفسي، وإن تركّز معظم هذه القلة في فترات لاحقة، إذ يظل «المخدوعون» رائدًا في هذا السياق، وبالتأكيد، فإن «أفلمة» عمل إبداعي أدبي حمل للفيلم هذه الشحنة الخلّاقة التي ميَّزته عن كثير من الأفلام التي أنتجت من قبله، وحتى من بعده، مع بعض الاستثناءات بالطبع، وجاء تقييده بمسمى السينما السياسية، التي انتصر لها نقاد عرب كثيرون في أوقات سابقة ليشكل ظلمًا له، فهو قد أفاد من العمل السياسي الذي عادة ما يوصف بـ«اليومي»، بمقدار ما يدور بين الناس العاديين من أحاديث دارجة عن تطوير حياتهم اليومية في ظل البؤس الذي يعيشون فيه، لكنه حمل أبعادًا إنسانية عميقة وبعيدة كل البعد عن الـ«مياومة» المقصودة التي تنطفئ شعلتها، ما إن ينتهي الفعل نفسه، ويخبو. بالعكس ما يزال فيلم «المخدوعون» من بعد مرور كل هذا الوقت، يزيد من رونقه الدرامي، ويلمع في سماء أفضل الأفلام العربية في تاريخها، بل إنه كما أسلفنا يجد أصداء له في كثير من الحوادث على مستوى العالم، وبخاصة في موضوع الشاحنات –المتجدد- التي تقل مهاجرين، وتنتهي بالغالب بموت معظم من يتنقلون بها اختناقًا، وهذا حدث في كثير من دول العالم، كما بتنا نشاهد ونقرأ في بثوث حيَّة على «السوشال ميديا»، وما يتفرَّع عنها من وسائط اتصال أخرى.
في الحكاية التي تتناول سير ثلاثة أجيال مختلفة، تتوارث الهم والنكبة، منذ الخروج الكبير من فلسطين سنة 1948، وهي أجيال يوحّدها خيط درامي واحد ووحيد: البحث عن مصدر للرزق الوفير، للخروج من فاقة مزمنة، سببها اللجوء، ويبدو أنها مرشحة لأن تطول مع استمرار مسببات هذا العيش الصعب في بلدان الجوار. كل واحد من هذه الشخصيات، يحمل مسببات للهزيمة وآثارها تختلف عن الآخر، بحكم المنبت الطبقي المديني أو الفلاحي الذي وفد منه ليركب على السكة الدرامية للرواية والفيلم، على حد سواء.
أبو قيس «لعب دوره محمد خير حلواني» رجل طاعن في السن، ويحلم بأن يمتلك بيتًا مع زوجته وابنيه، لا يشاركه فيه أحد، وهو بنتيجة تأزم الوضع الاجتماعي من حوله يصبح جارًا لعائلة أخرى تقتسم معهم الغرفة التي عثروا عليها، ولا يفصل بين العائلتين سوى بطانية، أي إن كل شيء من أصوات وروائح يكون متقاسمًا في العيش، وهو ما يمثل تهديدًا للذاكرة الأولى التي يتربّى عليها الإنسان، وينقلها أين يحل ويرتحل. إنه ليس بعيدًا عن المقالب النفسية الأخرى التي يصادفها في رحلته، إذ تفتح العدسة عليه، وهو يسير على غير هدًى في صحراء غير متناهية، وفي طريقه جمجمة بشرية، ثم سيغوص في طين ذكريات بعيدة، ولكن بالقرب من شط العرب، حيث تعلم من الأستاذ سليم، القادم من يافا، إنه الشط الذي يلتقي عنده نهرا دجلة والفرات.
لقاؤه الأول مع المهرب العراقي «لعب دوره «عدنان بركات» لن يكون موفَّقًا البتة، فلا لهجة هذا المهرب، ولا سلوكه قد بَثَّا في روحه أي نوع من أنواع الطمأنينة التي يبحث عنها في خريف عمره، ولهذا لا يستسلم له، كأنه يتحالف مع قدر آخر، غامض وخطر، ولن يمكنه الإفلات منه. أهمية أبوقيس في الفيلم أنه ينتصر للهزيمة، وتشبث بها حتى الرمق الأخير، ولا يبدو أنه كان سيتخلَّى عنها، حتى لو وصل سالمًا إلى وجهته، الجنة الموازية للحلم المفقود.
ابتعاد أبوقيس عن المهرب العراقي يقوده في اتجاه آخر نحو الطالب الجامعي أسعد «لعب دوره بسام لطفي»، والفتى الأصغر سنًّا، التلميذ مروان «لعب دوره صالح خلقي». إنه اللقاء في منتصف الجحيم الذي سيقفون على فوهته، ما إن يفشل ثلاثتهم بالاتفاق مع المهرب العراقي ليقوم بتهريبهم إلى الكويت. يجيء أسعد من خامة شاب جامعي مندفع ومتحمس للكثير من القضايا السياسية والاجتماعية التي ميزت مجتمعات اللجوء في تلك الآونة، إذ كانت تشتعل بالحماس، والرغبات بالتغيير، التي انتهى معظمها إلى كوارث أحاطت بها، وأدت إلى استنزاف ناسها وبلدانها، ودفعت به، وبكثيرين غيره إلى تغيير خططهم في العيش، والبحث عن منافذ أخرى، أقل كلفة، وأعمَّ فائدة، لذلك سيبدو مثل «الدماغ» المفكر بالنسبة لأبي قيس ومروان، حين يلتقون، ثلاثتهم، مع سائق شاحنة من «بلدياتهم»، أي فلسطيني مثلهم. إنه أبو الخيزران، الشخصية الأكثر إثارة للجدل في الفيلم والرواية، وهو الشخصية التي قادت هذه الأجيال إلى مكب النفايات، فما قد يحصل في الفيلم، وفي الرواية، يمكن أن يحصل في الحياة، وهذه نقطة مكلفة وباهظة، ففيما يصر أسعد على استخدام مفردات مثل «أنت القائد، وأنت قائدنا»، حين يتوجه بحديثه ساخرًا في مرَّات عدة إلى أبي الخيزران، فإنه يحدس ما ستؤول إليه رحلتهم، حين يقعون أسرى الخزَّان النفسي لهذا القائد الذي فقد رجولته في إحدى معارك سنة 1948، ولم يعد يهمه سوى جمع المال بأكثر الطرق شيطانية، حين يجد نفسه متحالفًا مع بيروقراطيات متوَّقعة، وها هُم ليسوا بعيدين عن الفزع، وإن قرعوا جدران الخزَّان، في الفيلم لا في الرواية، فلا ضير في ذلك. لا أحد في هذا الخواء النفسي الذي يحيط بهم سوف يستمع إليهم. الخزَّان هنا ليس مفردة محلية على أي حال. إنه خزَّان كوني، وهناك كثيرون مثل أبي الخيزران، وأبي قيس وأسعد ومروان، مستعدون للعب الدور، وليس هناك خاتمة لقصصهم أبدًا.