سوليوود «وكالات»
عند ترشيح فِلْم “أُخرج” (!Get out) لمخرجه جودان بييل لأربع جوائز كبرى من جوائز الأوسكار وهي: أحسن إخراج، أحسن فلم، أحسن ممثل وأحسن سيناريو، برز تساؤل: “هل بإمكان أفلام الدرجة الثانية ذات التكلفة البسيطة منافسة أفلام الدرجة الأولى؟ وهل بإمكان أفلام الرعب، التي لم تُرشح غير ست مرات لجوائز الأوسكار على مدار التسعين سنة الماضية، أن تدخل الحقل الصناعي السينمائي بقوة وتجد لنفسها سوقاً أكثر انتشاراً وربحاً، وبالتالي اعترافاً وتتويجاً بأهمّ الجوائز السينمائية في العالم، وذلك كما ورد في موقع العربية نت.
من المعلوم أن ترشيحات الأوسكار لأيّ فِلْم تحكمها عدّة عوامل أهمّها سوق شباك التذاكر، بمعنى المداخيل التي يحققها الفلم من دون تناسي تكلفته. ففلم “أُخرج” تمكَّن من استرجاع تكلفته خلال يوم واحد فقط من العرض، حيث لم يكلّف الفلم سوى أربعة ملايين ونصف المليون دولار، في حين فاقت أرباحه المئتي مليون دولار بعد شهرين من عرضه. وللتذكير فهذا الهامش الكبير من الربح لم يحققه أيّ فِلْم رعب قبله بما في ذلك فِلْم “المُطهِّر” أو “طارد الأرواح” الذي أخرجه ويليام فريدكين وكان مرشحاً لعشرة أوسكارات، لكنه لم يتوج إلاّ بأوسكار أحسن صوت وأوسكار أحسن اقتباس عن سيناريو أصلي، ليكون بذلك أكثر الأفلام ترشيحاً وأقلها فوزاً. لكن يبقى فِلْم ستيفن سبيلبرغ “أسنان البحر” (1975م)، أكثر أفلام الرعب تتويجاً، حيث فاز بثلاثة أوسكارات منها أحسن فِلْم، وكان قد حصد أعلى مداخيل في وقته فاقت 470 مليون دولار.
النظرة الدونية إلى أفلام الرعب
إلى وقت قريب لم تكن أفلام الرعب تثير حماسة المشاهدين بالقدر التي تثيره الأفلام الروائية والخيال العلمي أو حتى أفلام الحركة. وليس غريباً أن ندرك أن مجلّة “تايم” مثلاً تتعامل مع كلمة (رعب) بالحيطة والحذر، بوضعها دوماً وفي كل السياقات بين مزدوجين: “رعب”. وظل هذا النوع من الأفلام غير مرغوب في إنتاجه في فرنسا، باستثناء محاولات قليلة جداً بالنظر إلى الإنتاج السينمائي الكبير الذي تعرفه، ولم تلق نجاحاً كبيراً، لا من حيث المداخيل ولا من حيث الجوائز. لكن ما زالت أصوات عديد من النُقَّاد السينمائيين والمخرجين في فرنسا تطالب بتكثيف إنتاج هذا النوع في ظل وجود روايات وكتابات أدبية لا ينقصها إلا الاقتباس.
ففي الفترة الممتدة بين عامي 2003 و2007م، لم يتم إنتاج إلا 13 فِلْم رعب، مقابل 1086 فلماً فرنسياً أو بشراكة فرنسية، ممّا يجعل نسبة إنتاج أفلام الرّعب (%1.2) في فرنسا ضئيلة جداً مقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية، التي تنتج فلمي رعب كل أسبوع تقريباً. ويعود هذا الأمر في فرنسا، حسب النُقَّاد إلى أن المنتج الفرنسي لا يرغب في دخول مغامرة إنتاج أفلام رعب لأنه محكوم أخلاقياً ويعتقد أن المشاهد الفرنسي لم يتحرَّر هو الآخر بعد أخلاقياً. وقد حاول المخرج الفرنسي جان رولان (1938 – 2010م) خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي تقديم أفلام رعب، “لكنه ظلّ دوماً مُحتقراً ومبتذلاً كسينمائي، سيئاً وبذيئا ً، في حين أنه كان في الواقع أحد الروَّاد في سجّلات السينما”، مثلما يؤكد كريستوف لومير الناقد السينمائي البلجيكي.
تاريخها الطويل
هذه النظرة الدونية لأفلام الرعب في فرنسا ليست نفسها في الولايات المتحدة الأمريكية أو اليابان أو حتى في إيطاليا وإسبانيا بدرجة أقل. فقد ظهرت أولى أفلام الرعب مع السينما الصامتة، حتّى وإن أخرج جورج ميليس فلمه الأوّل “قلعة الشيطان” (1886م) كفلم ساخر، إلاّ أنّه صُنّف في خانة الرعب خاصة بعد اخراجه لفلم “المغارة الملعونة” (1898م). لكن الانطلاقة الحقيقية لهذا الجنس بدأت مع تود برومينغ بعد عرض فِلْم “دراكولا” (1931م) ثم فِلْم “الموكب الوحشي” (1932م). وخلال هذه الفترة التأسيسية للسينما بشكل عام، لم تكن أفلام الرعب تثير رغبة المشاهدين بالدرجة الأولى، مثلما لم تكن خصوصيات سينما الرعب محدّدة ومتفق عليها بين النُّقاد والسينمائيين، لكنها في الوقت نفسه بدأت تكوِّن جمهورها الخاص بها، خاصة في الولايات المتحدة. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانيـة، ألهمـت الحرب الباردة السينما وفتحت آفاقاً كبيرة للخيال ولمعاداة الشيوعية، مثل فِلْم “غزو خاطفي الأجساد” عام 1956م من إخراج دون سيغيل، والذي كان بمثابة منشور ضدّ الشيوعية.
في الستينيات من القرن الماضي، اعتمدت السينما على الأدب وأخذت تقتبس منه. وهو ما دفع منتجي أفلام الرعب للاقتباس من روايات إدغار ألان بو، مثل فلم: انهيار “منزل اوشير”، و”الغراب”، و”قناع الموت الأحمر”، وهي أفلام أخرجها روجر كورمان، وعرفت رواجاً واشتهاراً أفضل مما عرفته الروايات. وفي السنوات نفسها، عاد إلى الظهور ألفريد هيتشكوك من جديد، وأخرج للسينما أفلاماً بنظرة مغايرة وعمق جمالي جديد يعتمد على التشويق والقلق مع توريط المُشاهد في القصة بطريقة أو بأخرى. لقد صارت أفلامه، أيقونات في السينما الخيالية، ومرجعاً مهماً لمخرجي أفلام الرعب بعد ذلك، خاصة: “ذهان” (1960م) و”الطيور” (1963م).
وفي منتصف السبعينيات صارت أفلام الرعب تستند إلى قصص واقعية، على الرغم من تأثرها بسينما هيتشكوك، مثل فلم: “مذبحة تكساس” (1974م) لمخرجه توب هوبر، وهو الفلم الذي غرق في مشاهد الدم والعنف، بعد أن تبيَّن أن الإنسان يحمل بداخله كل هذا العنف والألم. وفي عام 1975م، أخرج سبيلبرغ فلمه الشهير “أسنان البحر”، حيث صار الشر يتجسَّد في الحيوان بدلاً عن الإنسان، لكنه هو الآخر لم يخلُ من مشاهد الدم والعنف. وقد استلهم بعض التقنيات من هيتشكوك لرفع منسوب التشويق والقلق، بالتوظيف الكبير للمجال الخارج عن الكاميرا أو عن التصوير، كما هدف إلى مساءلة المشاهد وإدراجه في القصة. وقد كان هذا آخر أفلام الرعب المرشحة بقوة للأوسكار منذ عام 1975م، حتى جاء فِلْم “أُخرج”.
لا تخرج قصة الفلم عن تلك الثنائية القديمة في أمريكا؛ أبيض وأسود. وطالما اعتقد الأمريكيون أن الخلاص من هذه العنصرية يكون بالتزاوج، فاختلاط الدم بين اللونين قد يعطي أجيالاً ليست بحاجة للصراع أو الكره بسبب لون البشرة. وتبعاً لهذا المنطق يجتمع زوجان؛ كريس وهو رجل أسود (تمثيل: دانيال كالييولا) وروز أرميتاج؛ امرأة بيضاء (تمثيل: أليسون وليامز)، ويعيشان لمدة خمسة أشهر في سعادة لا توصف، فتقرِّر الزوجة أنّه حان الوقت لتقديم الزوج لأهلها ليتعرفوا عليه. يوافق كريس على الرحلة رغم تحذيرات صديقه الحميم ويليامز، فهو لا يعطي أهمية كبيرة لمسألة اللون، ولا تبدو زوجته روز قلقة من ذلك. لكن أثناء الرحلة، وبعد حادث مرور بسيط، يقوم شرطي بطلب وثائق الهوية من كريس، فتحتج الزوجة لأنّها لم تجد سبباً مقنعاً لتصرف الشرطي، لكن هذا الحدث لم يكن إلا تذكيراً بالنظام، نظام المنطقة التي تسكنها عائلة روز.
لم يشعر كريس بالراحة وهو في منزل والدي روز. كل عمال المنزل من أصول إفريقية. لا شك أن ذلك يذكره بأحداث وذكريات أليمة وسيئة. خاصة بعد مجيء جيريمي شقيق روز، الذي لا يتوقف عن إزعاجه أثناء العشاء وحتى عن السخرية منه. وفي الليل يخرج كريس إلى الحديقة ليدخن سيجـارة وبعد عودتـه إلى الداخـل، تقوم ميسي وهي أم روز بتنويمـه مغناطيسيـاً بذريعـة مساعدتـه على وقف التدخين.
في اليوم، يتوافد عدد كبير من الضيوف على عائلة أرميتاج. يتقاسمون فيما بينهم فكرة عنصرية ضدّ كريس. الوافد الوحيد على هذا الحفل من أصول إفريقية هو لوغان كينغ، لكنه هو الآخر يتصرف بطريقة غريبة. فيحاول كريس أن يأخذ له صورة خفية بواسطة هاتفه المحمول، ليبعثها لصديقه رود بهدف التعرف عليه. لكن بمجرد إطلاق الفلاش، يتأثر لوغان لذلك، فينزف الدم من أنفه. ويبدو أنه استعاد روحه وعقله، فيدعو كريس إلى الهرب: “أخرج”. (!Get out).
ما حدث أمام كريس زاد من توتره وقلقه، فيُرسل الصورة لصديقه رود، فيعرف أن لوغان هو في الحقيقة أندري هايروث المُختطَف منذ عدة أشهر. يدرك كريس أنه داخل المصيدة، ثم يدرك أن أفراد عائلة أرميتاج يريدون أن يكونوا خالدين، وتأتيهم روز بالضحايا الذين يكونون أوعية لأدمغة أشخاص آخرين.
وهكذا يتحوَّل كريس من ضيف إلى “قطعة غيار” يحصل عليها جيم هودسون الذي يرغب في استعادة البصر.
يتمكن كريس من الفرار بعد صراع طويل مع أفراد عائلة أرميتاج، وهذا بفضل صديقه رود، الذي لا يتوانى في منحه درساً أخلاقياً.
في الفلم، يظهر كريس كشخص سلبي قليلاً. إنّه لا يؤيد الأحكام المسبقة ولا يستوعبها، فيقدِّم بطاقة هويته للشرطي من دون سبب واضح، ثم يجيب بكل عفوية وأدب عن كلّ أسئلة المدعوين المستفزة في الحفلة. وهو شاهِدٌ من هذا العالم بصفته مصوراً محترفاً، والأحداث ستجعل منه فاعلاً، يقدِّم على الفعل وينجح. وحتى لا يعود إلى المكان الغابر بفعل التنويم، عليه ألا يسمع رنين الملعقة على فنجان القهوة، فيغلق أذنيه بالقطن، القطن (في إشارة إلى حقول القطن) الذي لم يعد يستعبد الناس، بل يحرِّرها.
ممّا لا شك فيه أن كريس الأسمر سيظل كذلك في القصة المروية وفي تاريخ أمريكا. إنّه أسير “البيض” الذين يرغبون في استغلاله، لكن المدهش فعلاً هو دقة الاختيار لزنوج بمواصفات محدَّدة جسداً وعقلاً. البيض لا يدخلون وعاءً مريضاً أو معاقاً، الزنوج من صفوة المجتمع يتم تقزيمهم بتحويلهم لعمال منزل. أباء وأجداد روز أرميتاج خالدون في أجساد زنوج.
فلم “أُخرج” هو تشهير بشريحة من النخبة الاجتماعية في أمريكا واستنكار لتصرفاتها. فهذه الشريحة التي على الرغم من اكتسابها العلم وسفرها حول العالم، لم تتخل بعد عن ممارسات مخزية ولا إنسانية. فالعنصرية لم تعد ممارسات أمريكا العميقة بل إنها ممارسات شريحة من البرجوازية فيها.
إنّه فِلْم رعب. هكذا صنفوه، رغم أنه لا يحمل من مواصفات الرعب إلا القليل. ومشاهد الرعب لا تتعدَّى الدقائق الأخيرة من الفلم. وأفلام الرعب، منذ بداية السينما حتّى اليوم، تعالج الموضوعات التالية، إما مجموعة أو منفصلة حسبما ذكره ميكائيل أرمسترونغ مخرج فِلْم “علامة الشيطان”: القتلة المجانين (مُستلهَمون من الواقع أو من الخيال)، والموتى الأحياء (مصاصو الدماء والزومبيات)، والوحوش من صنع الإنسان (فرانكشتاين وما شابهه)، والوحوش القادمة من خارج كوكب الأرض، والمنتقمون الطبيعيون (نسبة إلى الطبيعة)، والمسوخ المتحوّلون، والسحرة (الأرواح الشريرة والشياطين).
لكن الرعب في هذا الفلم ليس بحجم فِلْم “المُطهِر” أو “أسنان البحـر” أو حتّى “دراكـولا”. الرعـب في الفلـم هو رعـب الفكـرة، رعب العنصرية.
إن نجاح هذا الفلم تجارياً بمداخيله الضخمة، وفنيّاً بترشيحاته وفوزه بأوسكار، صار يُنظَر له كظاهرة جديدة في سينما الرعب. وصارت شركات الإنتاج تدفع أكثر لإنتاج ما هو أعمق من مشاهد رعب وعنف، قد تعجب البعض لكنها تنفّر الكثيرين، فالحياة اليوم صعبة ومتشعبة، وتأخذ في أحيان كثيرة منحنى فِلْم رعب، والأمثلة من حولنا كثيرة، فالعالم دائم الحروب، ومسرح لتصفيات عرقية وعقائدية، والبشر يقتلون بعضهم بعضاً، ويكرهون بعضهم بعضاً، وعنصريون في ما بينهم، وأفلام الرعب هي تعرية وكشف لحقيقة الإنسان المرعبة والأليمة، وجعل هذا الإنسان يواجه حقيقته، وهو جالس على كرسي في قاعة مظلمة، يصرخ ويبكي ويخاف وإن بصمت. قد يغمض عينيه أو يتقلص ويلتصق بكرسيه. فالرعب في قاعة سينما ليس هو الرعب واقعاً. هو تمثيل لكنه مصادقة على الواقع. هو فتح شهية الأسئلة لمَ حدث وما يحدث.. هو بكل بساطة استحضار الضمير الغائب في أغلب الحالات.