يزيد بدر
ليس غاية هذه المقالة الدخول في نزاع قديم حول السينما، وهل هي فن أم لا، بل هي تنطلق من أنها فن ولا شك في ذلك، إلا أن السؤال الذي يشغلنا هنا هو: ماذا يترتب عن كون هذه الصناعة فنًا؟ في الحقيقة نريد أن نضع الأصول العريضة لهذا الفن من خلال التأكيد على ثنائية أجدها في غاية الأهمية عند الحديث عن السينما بعامة، وأعني الفرق بين الرؤية الفنية في السينما والوسيط التقني.
تتركب السينما من هذين المصدرين ولا يمكن أن يتحقق هذا النوع من الفن دون الأخذ بالاعتبار كلا المجالين، فنحن نشهد اليوم في السعودية حركة سينمائية واعدة، وظهور الكثير من الأفلام الطويلة التي تعد تجارب رائعة مهما اختلفنا مع هذه التجارب، إلا أنني لاحظت لبسًا عند من يحاول تقييم أو نقد هذه التجارب، ويكمن هذا اللبس في عدم التفرقة بين الأصل الجمالي للسينما والبعد التقني لها.
ما يهمني هنا، هو أن نعي هذه النقطة، وهي أن السينما فن كغيره من الفنون؛ مما يعني أنه يدخل في مجال الجماليات والبحوث الإستطيقية، وهي ما نعبر عنه في مجال الأفلام بالرؤية الفنية. إن الرؤية الفنية ليست حديثة في سياق المجتمع السعودي، ولا هي حديثة في سياق أي حضارة أخرى، بل إنه من الصعب في زمن العولمة والانفتاح الرقمي الحديث عن عزلة جمالية.
نحن نعيش داخل إمبراطورية الجمال الكوني ومنها ننهل ونتقد وندخل في حوارٍ نقدي هادف؛ مما يعني أنه ليس من الدقة أن نقول السينما السعودية ناشئة وكأنها ظهرت من العدم أو اللاشيء؛ لأن – كما ذكرنا – هذه الصناعة تعتمد في جزء كبير منها على الرؤية الجمالية للمخرج وبقية طاقم العمل، والرؤى الجمالية لها ينابيع عدة منها ما هو متجذر في هذه الأرض وهذا الوطن الذي نعيش فيه، كالدين والعادات والتقاليد والأعراف وغير ذلك، ومنها ما هو نابع من مثقفي هذا السياق، فمنذ زمن بعيد نجد من يكتب في الفلسفة والإستطيقا أو الجماليات، واليوم ما نشهده هو تطور الوسيط التقني وكذلك حضور الدعم القوي لهذا النوع من الفن أي السينما؛ لذلك وجب أن نفرق بين الرؤية الفنية والوسيط التقني، مما يجعلنا نجر هذا الضرب من الفن نحو أرضه التي يألفها وهي الفن والبحوث الجمالية.
هذه العملية تجعلنا على وعي بأن السينما قبل أن تتحقق كعملية إبداعية يجب أن تدخل في نقاش طويل ومتبحر مع الرؤى الجمالية المتعددة في سياقنا الحضاري؛ أي القرن الواحد والعشرين، ومن هنا نطور في البناء النظري والجمالي، بينما الوسيط التقني له رواده وخبراؤه، وهكذا نكون أولًا وضعنا السينما في أرض المباحث الجمالية وهو ما يعني أننا بحاجة إلى رؤى متعددة وبحوث جادة وصارمة في هذا المجال من أجل مستقبل سينمائي واعد.
كما أن هذه المقالة دعوة لكل محترفي الفن السابع للتعمق أكثر في الدراسات الجمالية والفلسفية والخوض في تاريخ السينما العالمية حتى نملك زمام الرؤية الفنية قبل التمكن التقني الذي هو لا يتطلب الكثير في ظل وجود الدعم المادي والبيئة الناجحة. كما أن هذه المقالة تمهد الطريق نحو ينابيع عدة علينا أن نلتفت لها في ظل عملية التطور التي نشهدها، وأعني الفلسفة والعلم الحديث والأنثربولوجيا وغير ذلك مما يعين على تشكيل رؤى جمالية قوية ولها جذورها الفلسفية والعلمية.
السينما فن، ومن ثم هي بحاجة إلى دراسات جمالية، والجمالية فرع من فروع الفلسفة، مما يعني أنه لا مناص من التفلسف داخل السينما، وبذلك ومن خلال مفهوم الرؤية الفنية نكون فتحنا بابًا للبحث المستفيض والمعمق في الجماليات والفلسفة والعلم.
كما أننا بدافع الدقة التاريخية والفلسفية قلنا إنه ليس من الدقة الحديث عن السينما السعودية وكأنها ولدت في يوم وليلة؛ لأن السينما كما قلنا رؤية فنية ووسيط تقني، والرؤى الفنية لم تتوقف يومًا في سياقنا الحضاري، بل هي تتجدد يومًا بعد يوم، بذلك نكون وضعنا السينما في أرضها الأم؛ أي الفن، وفتحنا الباب على مصراعيه لدخول الفلسفة والعلم في تشكيل رؤيتنا الفنية والجمالية.