محمد سيد ريان
يظل هذا الفيلم على الرغم من مرور أكثر من سبع سنوات على عرضه الأول في أواخر عام 2016، واحدًا من أبرز الأفلام التي لا تمل أبدًا من مشاهدتها وإعادة التفكير فيها من زوايا أخرى. فانطلاقة الفيلم الأساسية من اللغة، وهي أول سلاح استخدمه الإنسان على الأرض، واللغة كذلك هي الوسيلة الأفضل على الإطلاق للتعبير عن الأدب والفن والمعبرة عن التفكير ومنجزات العلم والحضارة الإنسانية.
لقد شاهدت أفلامًا عديدة عن نفس الموضوع قبله وبعده، ومنها أفلام سبيلبرغ الشهيرة، التي تدور في عوالم الحرب والرعب، وأفلام أخرى تبسط الموضوع بصورة كوميدية مع قدر من ادعاء العمق وخلخلة الثوابت كما في الفيلم الهندي «PK».
الفيلم الذي نتحدث عنه والمأخوذ من المجموعة القصصية «حياتك» لكاتب الخيال العلمي «تيد تشيانغ» – المصنفة ضمن أفضل 100 عمل أدبي في الألفية الجديدة – والتي تتحد مع رؤية مخرج متميز هو دينيس فيلنوف وبراعة تمثيلية لإيمي آدمز؛ مختلف في الطرح خلال الحبكة الفنية التي تبدأ بحدث غريب بهبوط أجزاء لسفينة فضائية في أماكن متفرقة من العالم يترتب عليه حشد لجيوش الدول الكبرى استعدادًا للحرب المنتظرة؛ ولكن الغريب مرور أيام دون تغيير مرتقب وعدم وجود أي نية للتخريب أو التدمير من الفضائيين، بل محاولة للحوار غير المفهوم. وبطبيعة الحال تتراجع أصوات العسكريين قليلًا لإفساح المجال للمتخصصين؛ حيث يتم عمل فريقين: أحدهما يختص باللغات وهو الأساسي بقيادة «لويز بانكس»، وفريق آخر يساعده علميًا بقيادة الفيزيائي «يان دونيلي»، وعلى الرغم من خلافاتهم في بداية الرحلة حول من القائد الرئيسي للموضوع؟ وهل اللغة أم العلم هو أساس الحضارة؟!
ربما يجعلك الفيلم تحبس أنفاسك في بعض مشاهده، خاصة عند اللقاء مع الفضائيين الذين يتخدون شكلًا مرعبًا وجديدًا في نفس الوقت على هيئة كائنات لها سبع أرجل كالأخطبوط، ولكنك لن تكف عن جعل عقلك ينطلق باحثًا عن إجابات تبدو سهلة ممتنعة لإيجاد طريق ومخرج إنساني لما تراه.
يطرح الفيلم قضايا فلسفية وفكرية مهمة، فمن أهمية اللغة في التواصل ودورها في إحداث السكينة والهدوء ما يعطي الفرصة للطرف الآخر على الاستماع وهي الصفة الأقدم لدى الإنسانية، فنحن نسمع حتى قبل أن نولد! كما يشير الفيلم إلى واحدة من أكثر القضايا حيرة وهي علاقة الإنسان بالزمن، التي ينظر إليها طوال الوقت بأنها علاقة خطية، بينما يشير الفيلم إلى وجود مفهوم مغاير بوجود الماضي والحاضر والمستقبل في حلقة واحدة، ولعله يقصد في ذلك الأشخاص الذين لديهم بصيرة نافذة تكسر الحاجز الزمني، ولكنها لا تعمل منفردة، بل يسندها العلم كما حدث بالفيلم من العلاقة بين عالم اللغة وعالم الفيزياء.
في كل مشاهد الفيلم رسائل ذات دلالة، فمن أهمية التسمية في بداية الحوار كما حدث مع الأجسام الفضائية بتسميتهم «آبوت» و«كاستلو»، وأن التعبير عن الأفكار قد يأخذ أشكالًا شتى من الاتصال باللغة المنطوقة أو الاتصال المرئي، وبالطبع اللغة المكتوبة، وأن الآخر ليس شريرًا في المطلق أو سيئًا على الدوام، بل من الممكن أن يحمل إنذارًا لخطر مشترك، كما يظهر بعد ذلك من أن الفضائيين يحملون رسالة بأنهم سيكونون بحاجة للمساعدة بعد ثلاثة آلاف عام. كما ينبه الفيلم لخطورة الخلط اللغوي والتلاعب بالألفاظ كما حدث عند الحديث عن الفرق بين السلاح والتقنية، فكلاهما أداة للمقاومة، وكذلك خطورة اندفاع الجماهير متأثرين بما يعرض على وسائل الإعلام للحل العنيف، وهو ما حدث مع الجنود والحشد ضد فكرة التفاوض؛ مما يؤكد أن العنف أسهل بكثير من الحوار. أما أكثر الأسئلة عمقًا، فقد جاء في نهاية الفيلم عن إمكانية تغيير القرارات الحياتية في حالة معرفة القادم من الأمور.
توقفت كثيرًا عند الرموز التي يلقيها العمل أمامنا ومنها اسم الطفلة HANNAH الذي يقرأ من اليمين كما يقرأ من الشمال كدليل على الوحدة في الهدف رغم الطرق المختلفة، وهو ما تؤكده أحداث الفيلم من أن الاتحاد العالمي على قرار كفيل بإنقاذ البشرية من المخاطر الحالية والمحتملة بحرب عظمى. قد يبدو الأمر بالتأكيد أشبه باليوتوبيا المنتظرة أو المستحيلة، ولكن الأخطار الخارجية ربما تحقق الوحدة المفقودة وهي سبيل النجاة.
يجعلك هذا العمل تبحث عن أعمال أخرى تستطيع أن تنفذ هذه المعادلة الصعبة من اتفاق النقاد والجمهور. وتجدر الإشارة في النهاية إلى مقولة مهمة تلخص كل ما سبق، وهي أن تصل متأخرًا خير من أن لا تصل أبدًا.